Dr. Muayad H. Hussain (Moayad Hassan). Posting works and articles in the fields of culture and visual communication which include art, photography, cinematography and design. Living in Kuwait and working as an Assistant Professor of History of Ar and Art Criticism at the Collage of Basic Education (Jaber University). Phd in History of Art from University of Birmingham, UK.
قانون المطبوعات الكويتي واحد من أكبر المعضلات التي تواجهها حرية التعبير في الكويت، فذلك القانون المشؤوم الصادر على حين غرة عام 2006 تسبب وما زال في إرهاب وملاحقة كل صاحب كلمة منشورة أو مذاعة أو مصورة على أرض هذا الوطن. تحدثت عن هذا القانون وتوابعه كثيرا في هذه المدونة، ويعود اليوم مطروحا في ساحة النقاش بعد أقرت مؤخرا بعض التعديلات عليه. ما هي تلك التعديلات؟ ما هي آثارها المحتملة؟ هل سيكون لها أثر إيجابي أم سلبي على حرية النشر؟
الأمر معقد قليلا، سنقسم آثاره إلى إيجابيات، سلبيات، ومنطقة رمادية. لكن قبل ذلك علينا أن نستوعب أهم تغيير حدث في هذا التعديل، وهو مسألة الرقابة المسبقة وكيف تحولت إلى لاحقة. لفهم آلية الرقابة المسبقةكتبت سابقا مقالا بعنوان الرقيب المسكين.
إيجابيات التعديل
التعديل الأهم على القانون هو مسألة إلغاء الرقابة المسبقة على الكتب “المستوردة“، فبعد أن كان القانون ينص على ضرورة أن تعرض الكتب قبل التصريح ببيعها على لجنة رقابة المطبوعات بوزارة الإعلام لتحصل على فسح منها، صار نص القانون الآن أن الكتاب لا يحتاج إلى أكثر من إخطار الوزارة بعنوان ومعلومات الكتاب وإيداع نسختين منه لديها… ثم يطرح للبيع مباشرة.
تلك خطوة إيجابية بالطبع… على الأقل ظاهريا!
أكبر مشكلة بالقانون القديم لم تكن قانونية ولا سياسية ولا أخلاقية، بل كانت إدارية! آلية الرقابة شيء مرهق ويستنزف طاقة الكاتب والناشر، مع التعديل وإلغاء الرقابة المسبقة أصبح النشر أسهل نسبيا.
طبعا أكبر مستفيد هنا هم الناشرون والمكتبات، لأن حياتهم ستكون أسهل. مشهد صناديق الكتب الملقاة في ممرات ومكاتب إدارة الرقابة منتظرة رأي الرقيب كان منظرا كئيبا ومثيرا للغثيان، خاصة بفترة ما قبل معرض الكتاب. هذا المنظر من المفترض أنه سينتهي بعد هذا التعديل.
قانونيا كل ما كان يحظر نشره مازال ممنوعا… وزيادة! لكن الفرق أن فرصة نشره رغم شبهة مخالفته للقانون أصبحت أكبر. مرة أخرى الناشرون (والقراء) هم المستفيدون من ذلك لأن عدد المصنفات التي سيتمكنون من بيعها ستكون أكبر، وفرصة تعرضها للمنع لاحقا ستكون أقل لأن الكثير من المحظورات الموجودة فيها لن يلاحظها أحد، لأن الرقيب المحترف لم يعد موجودا.
كذلك فإن فرصة تعرض الكتب للمنع للأسباب السخيفة كما كان يحدث سابقا ستقل كثيرا، فلا أتوقع أن أحدا سيتحمس لرفع قضية على كتاب لورود كلمة “نهد” فيه بشكل عابر… أو لأن فيه صورة شخصية ليتيل ميرميد يظهر بطنها!
نقطة إيجابية أخيرة هي أن اختفاء المنع المسبق للكتب يعني أننا أيضا – بشكل غير مباشر – سنتخلص من العنتريات المزعجة لبعض الكتاب ممن يفاخرون بمنع كتبهم! لن نتخلص منها بالكامل… لكنه إزعاج سيقل التعرض له.
سلبيات
الآن دعونا لا ننجرف بالحماس للتعديل، فتعديل القانون لا يعني إطلاقا أن الحريات أصبحت أكبر… بل بالعكس أصبحت أضيق وأخطر!
خطر تعرض الكتاب للملاحقة القانونية الفعلية مازال موجودا بل أصبح أكبر وأكثر خطورة لعدة أسباب:
١- لعدم وجود رقيب يراجع الكتاب ٢- لتخلص الرقيب من المسؤولية السياسية ٣- لإدراج محظورات أكبر مع التعديل
أولا، لا أقصد أبدا مدح الرقيب! لكن وجوده كان يشكل عقبة في طريق نشر ما هو ممنوع قانونا، وإن كان ذلك لا يعني الحماية الفعلية للكتاب. فحتى مع الرقابة المسبقة يمكن أن تتعرض الكتب للملاحقة القانونية، وحدث ذلك من قبل، أي أن يجاز الكتاب من لجنة الرقابة لكن ترفع عليه قضية لاحقا في المحاكم. لكن فرصة حدوث تلك الملاحقة حاليا أصبحت أكبر لعدم وجود فلتر للمنشورات، حتى من حيث الكم، عناوين أكبر دون رقابة تعني عناوين أكثر من الممكن أن ترد فيها كلمة تتسبب بمحاكمة المسؤول عنها.
ثانيا، الرقابة المسبقة كانت تشكل ضغطا هائلا على الحكومة، وتحملها مسؤولية كل ما ينشر ويذاع ويقال، الآن نوعا ما هي ارتاحت من هذا الحمل وأصبح حملا على أكتاف المحتسبين من الشعب… وما أكثرهم!
بالسابق كانت الرقابة عبارة عن أداة سياسية تستخدمها بعض القوى للضغط على الحكومة، أما اليوم فنوعا ما صار الشد مباشرا بين تلك القوى وبين الكتاب. ذلك أمر إيجابي للحكومة… أما الكتاب فكان الله في عونهم على ما سيأتي!
ثالثا، وهي النقطة الأخطر، خاصة إذا ما قرناها بالنقطتين السابقتين – والتي يتجاهلها المدافعون عن القانون المعدل – هي إدراج محظورات جديدة مع التعديل الجديد على القانون، وهي محظورات حساسة وبغاية الخطورة!
وكأن المحظورات الإثناعشر السابقة لم تكن كافية… أصبحت الآن 13. طبعا بند 11من مادة 21 الجديد من محظورات النشر كارثة تستحق مقالا مطولا لنقاشها! وهو بند يحظر مناقشة المواضيع الطائفية والقبلية والعنصرية بشكل يثير “الفتن” أو “التحريض”. وهي مصطلحات مطاطة… ظاهرها بريء… لكن على أرض الواقع ستتسب بمجازر قانونية كريهة!
ضع في بالك أن محظورات قانون المطبوعات هي ذاتها التي تشير لها محظورات قوانين الإعلام الأخرى. يعني تضييق الحرية بسبب التعديل الجديد لن يصيب الكتب وحسب، بس سيصيب الصحف، الإعلام المرئي والمسموع، النشر الإلكتروني، وجرائم تقنية المعلومات.
رماديات
المشكلة في قانون المطبوعات حتى قبل التعديل لم تكن في نصه وحسب، بل حتى في تطبيقه.
هل تعلم أن نص قانون المطبوعات قبل التعديل لا يعطي الرقيب الحق بمراقبة الكتب المنشورة داخل الكويت، فنص القانون يقول بأن الناشر المحلي فقط يخطر الوزارة بمعلومات كتابه ويودع لديها نسختين، لكنهم ولسنوات طوال كانوا يضربون هذا النص بعرض الحائط ويصرون على مراقبة الكتب المحلية والمستوردة على حد سواء؟! تعديل نص القانون الجديد من المفترض أن يساوي بالمعاملة بين الكتاب المحلي والمستورد… لكن المحلي كان مظلوما أساسا!
نص التعديل يتحدث عن إلغاء الرقابة المسبقة للكتب المستوردة، وستكون الكارثة المضحكة أكبر إذا قرر الإخوان بإدارة الرقابة أنهم سيكتفون بتطبيقه عليها واستمرار الرقابة المسبقة على الكتب المحلية… سأضحك كثيرا من القهر إن تم ذلك! وبصراحة هو أمر رغم غبائه إلا أنه غير مستبعد، فالوضع السابق استمر لأربع عشرة سنة رغم المطالبة بتصحيحه، وكنت قد ناقشت الأمر كثيرا مع المسؤولين بوزارة الإعلام ومع الناشرين المحليين ومع الزملاء الكتاب والناشطين السياسيين… لكن رغم ذلك لم يصحح الوضع، لذلك فإن الغباء بتطبيق القانون أمر ليس مستبعدا رغم النص الصريح.
ربكة
الوضع كما نرى مربك ومشوش، فيه الإيجابيات وفيه السلبيات، وفيه منطقة رمادية كبيرة لا ندرى حتى الآن ما هي نتائجها. لا ندري بالضبط كيف سيتم معاملة القانون المعدل، من سيتولى عملية الرقابة اللاحقة؟ هل أصبحت رقابة أهلية بحتة؟ هل ستستمر الحكومة بملاحقة الكتاب قانونيا بزعم الرقابة اللاحقة؟ أم ستكتفي بالمنع الإداري؟
الوقت هو ما سيبين لنا نتائج هذا التعديل، نأمل أن تسير الأمور للأفضل، لكني لا أستطيع أن أفرح وأتفاءل بالوقت الحالي.
الصحة تقوم في الوقت الحالي بتتبع أعداد الإصابات في المناطق المعزولة، حيث يقطنها أعداد كبيرة من الوافدين والعزاب، ممن لا يلتزمون التعليمات الصحية والتباعد الاجتماعي. […] المرض لن ينحسر في هذه المناطق، إلا من خلال تطبيق المناعة المجتمعية.
رئيسة المشرفين الصحيين في منطقة العاصمة بالصحة الوقائية
جميع الحيوانات سواسية، لكن بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرها.
في مرحلة متقدمة من أزمة جائحة الكورونا أصدرت الحكومة الكويتية بالسادس من أبريل 2020 قرارا بعزل منطقة المهبولة (وجليب شيوخ) بحجة انتشار المرض بين سكانها وبالتالي الحد من انتشاره خارجها. وبعد شهور من هذا العزل لنا أن نتساءل أولا عن فاعليته وتحقيقه للهدف منه، وثانيا عن آثاره الاجتماعية والثقافية، وأخيرا عن الدروس المستفادة منه.
يسكن المهبولة ما يقارب المئتي ألف نسمة، ومن الشائع عنها أنها منطقة تسكنها العمالة الوافدة، وإن كان سكانها من جنسيات مختلفة (بما في ذلك الكويتيين) وتوفر بعض بناياتها سكنا لعمال بعض الشركات الكبيرة ومدرسي بعض المدارس والجامعات وغيرهم من الفئات السكانية المختلفة، كما تحوي العديد من المحلات التجارية والعيادات الطبية والمستشفيات والمطاعم والنوادي وغيرها.
أثناء فترة العزل عانى سكان المنطقة من الكثير من المشاكل، أبرزها صعوبة الحصول على متطلبات المعيشة الأساسية، فغالبية شركات التوصيل لا تستطيع (أو ترفض) دخول المنطقة، كما أن المنطقة ليس بها جمعيات تعاونية ولافروعها ولا مركز صحي. تمت محاولة حل بعض هذه المشكلات بإنشاء فرع مؤقت لجمعية الفنطاس داخلها وفرع للتموين ومركز صحي ميداني، وهي إجراءت ترقيعية… اسألوا سكان المهبولة عنها! مشكلة أكبر تواجه بعض سكانها كذلك هي فقدهم لوظائفهم ومصادر رزقهم بسبب عزلهم عنها.
الحديث بالفقرة السابقة هو عن بعض المشاكل المادية، ولكن هنالك مشاكل اجتماعية ونفسية وثقافية لا تقل عنها، ناهيك عن المشكلة الصحية الأساسية. ففيما عاشت بقية مناطق الكويت حظر تجوال كلي لمدة 20 يوما عانى السكان من خلالها من مختلف أنواع المشاكل والضغوطات… نجد المهبولة تستمر معاناتها من مشاكل وضغوطات مشابهة لمدة استمرت ما يقارب الشهرين حتى وقت كتابة هذا المقال.
والسؤال هنا…
ماذا استفدنا من العزل؟
عند صدور قرار العزل كان مقررا له أن يستمر أسبوعين حتى يتم السيطرة على الوضع، فكيف تحول الأسبوعان إلى شهرين؟ وماذا نستنتج من هذا التمديد؟
إذا اعتبرنا المهبولة المعزولة بسكانها المئتي ألف مجتمعا مغلقا صغيرا فذلك يجعلها ما يمكن اعتباره مجموعة قياسية، فالإجراءات التي تم تطبيقها عليها خلال شهري العزل ومقياس نجاح تلك الإجراءات هو دليل على ما يمكن تطبيقه على الدولة ككل. بمعنى آخر… إذا اعتبرنا سكان المهبولة بأنهم “فئران تجارب” الإجراءات الصحية فإن النجاح بالسيطرة على انتشار المرض فيها هو دليل على نجاح تجربة يمكن تطبيق إجراءاتها على الكويت ككل، والعكس أيضا صحيح، إن كانت الدولة قد فشلت في السيطرة على المرض بين 200 ألف شخص معزولين عن العالم في المهبولة (و300 ألف في جليب الشيوخ)… فكيف ستنجح بالسيطرة عليه بين 4 ملايين من بقية سكان الكويت ممن يسرحون ويمرحون دون عزل؟
باعتبار عزل المهبولة كتجربة علمية فإن الفشل بالسيطرة على المرض فيها يمكن اعتباره إما ضعفا بالقدرة على التخطيط والتنفيذ، وتلك كارثة إدارية تنذر بمصيبة أكبر تعم البلاد، أو أنه فشل متعمد… وتلك مصيبة أكبر!
العزل الثقافي
فكرة العزل الثقافي ليست جديدة ولا غريبة علينا ككويتيين، تحدثت عنها سابقا في مقال ثقافة السور، فذلك السور الحديدي القبيح المحيط بالمهبولة قد يحمل دلالة ثقافية أكثر قبحا من شكله بكثير.
النظرة الشائعة التي تحدثنا عنها أعلاه عن كون المناطق المعزولة هي مناطق “وافدين” هي واحدة من المعضلات العويصة في قضية عزل أو حصار المهبولة، وذلك ليس أمرا مستغربا في ظل العقلية العنصرية التي كانت سائدة لعقود طويلة وتفاقمت بشكل ضارٍ وجلي خلال أزمة الجائحة. أدت هذه العقلية العنصرية لانتشار فكرة أن سبب تفشي المرض في هذه المناطق سببه تكدس العمالة بكثافة عالية حينا، وعدم وعي تلك العمالة واستهتارها بالقوانين حينا آخر. يتم لوم سكان تلك المناطق بشكل صريح أحيانا، وفي أحيان أخرى يكنى عن ذلك بلوم من يطلق عليهم اسم “تجار الإقامات” ممن تسببوا بهذا التكدس. لن أتناقش هنا بمن هو أكثر وعيا، الوافد أو المواطن، لأن في ذلك تعميما مرفوضا، لكن أرقام مخالفي الحظر الرسمية التي تنشرها وزارة الداخلية يوميا وفيديوهات المواطنين بالخيران تقول بعكس الرأي الشائع.
مثال على تجاهل قيود حظر التجول بالخيران وغيرها من المناطق الساحلية
أكذوبة التكدس
نقطة أخرى تضلل الرأي العام في الكويت وهي إحصاءات حالات الإصابة الرسمية، وهي أرقام من المفترض بأنها جامدة ولا يختلف عليها، لكن الطريقة التي تقدم وتقرأ بها هي ما يمكن التلاعب به. تلك الأرقام إن قُرأت بالشكل الصحيح تبين لنا أنه على عكس الاعتقاد السائد بأن المرض مستشر بين جنسيات الوافدين المتكدسين وقليل الانتشار بين الكويتيين فإنه واقعيا لا يفرق كثيرا بين المجموعتين… إحصائيا!
بداية يجب أن أسجل اعتراضي على تقسيم المرضى بين كويتيين وغير كويتيين، فالمرض لا يعرف فرقا بينهم، والفيروس يجري بالدم الكويتي كجريانه بدم غير الكويتي، وقد فصلت بذلك بمقال للكويتيين فقط، ولكني أورد هذه الإحصاءات فقط لتوضيح سوء الفهم الدارج عند الناس. ببداية الجائحة كانت أرقام الإحصاءات تذكر دون تحديد جنسية المصابين، وكان ذلك أمرا حميدا برأيي، لكن الناس حينها أخذت تطالب بذكر جنسيات المصابين… لغرض في نفسها، فما كان من السلطات الصحية إلا أن استجابت لمطالبهم مما أسعد أصحاب رأي “شوفوا شلون المرض منتشر عند الوافدين أكثر!” وهي بالطبع مغالطة لم تكلف السلطات تصحيحها للناس.
عدد سكان الكويت حسب آخر التقديرات هو ما يقارب الأربع ملايين وسبعمئة ألف نسمة، يمثل الكويتيون منهم ما يقارب الـ 30 بالمئة. الآن إن افترضنا أن المرض انتشر بالتساوي بين السكان، يفترض منطقيا إذن أن تتوزع أرقام الإصابات بنفس نسبة السكان، أي أن تكون نسبة الكويتيين المصابين بالمرض من إجمالي عدد الإصابات هي 30 %، فكم تعتقد هي النسبة الحقيقية؟
لم أجد إحصائية شاملة لنسب الإصابات حسب الجنسيات، خاصة وأن نسب إحصاءات الأيام الأولى غير متوفرة كما ذكرنا، لذلك قمت بجمع أرقام الإصابات الجديدة للخمسة أيام الماضية كعينة إحصائية، وهي من أيام الحظر الشامل، وكانت النتيجة كما يلي:
المصابين الكويتيين = 1057 المصابين من غير الكويتيين = 4234
مرة أخرى، ظاهريا عدد المصابين من غير الكويتيين أكبر بكثير من عدد الكويتيين، وتلك هي الأكذوبة التي يعتمد عليها من يلوم الوافدين على تكدسهم وعدم التزامهم، لكن إن أخذنا النسبة بين العددين نجد بأن عدد الكويتيين المصابين يصل إلى 26% من المجموع، أي أنه عدد قريب من نسبة الـ 30% التي افترضناها منطقيا. بمعنى آخر الإصابات تتوزع نوعا ما بالتساوي بين الجنسيات رغم فرضية التكدس وعدم الالتزام التي صورت لنا بأن مناطق الوافدين هي بؤرة المرض ومستنقع الجائحة.
طبعا هذه الأرقام والإحصاءات الرسميةمن الأساس لا تعكس الحقيقة بشكل دقيق، ولا أذكرها هنا بإيمان مطلق بأهميتها، ولكن ما يهمني هنا هو الجانب الثقافي المتعلق بكيفية قراءتها، وكيف يمكن أن يخدع الناس بها، وكيف يمكن أن تستغل لإيصال أفكار خاطئة للجماهير تؤثر على معتقداتهم وآرائهم وقراراتهم، وكيف يمكن للفهم الخاطئ أو المضلل للأرقام أن يبني ويعزز الفكر العنصري.
اللوم العنصري
هل عملية اللوم العنصري هذه أمر طبيعي؟ وهل أتت من فراغ؟ لا أعتقد ذلك، بل إني أجرؤ أن أقول بأنها عملية منظمة بشكل ما. تزايد وتيرة الخطاب العنصري خلال هذه الأيام هو أولا نتيجة تراكمات الثقافة العنصرية كما فصلت بثقافة السور، وأيضا نتيجة الخطاب الوطني/القومي المطروح بسذاجة بالإعلاميات التي انتشرت خلال الجائحة، والطرح الوطني/القومي وأثره في إثارة العنصرية هو أيضا موضوع تحدثت عنه بالتفصيل سابقا بمقال الصورة الكبيرة. مما بالغ بتعظيم دور الخطاب العنصري هذه المرة أيضا هي الرسائل مجهولة المصدر المتداولة أو تصريحات بعض المشاهير المنتشرة بالإعلام بالإضافة لبعض حسابات مواقع التواصل الاجتماعي التي نراها تتحرك بشكل منظم لإثارة النعرة العنصرية… وفوق ذلك تجاوب السلطات الرسمية معها. مسألة الرسائل الإعلامية الرسمية والشعبية قد تكون موضوع مقالات قادمة.
نوم شومسكي عن ترمب: – يلوم أطراف خارجية كالصين ومنظمة الصحة، أمر سهل بيعه للجماهير – يقنع الجماهير أن الأصوات المعارضة عبارة عن إشاعات تدمر قيادته الحكيمة – يشبهه بالنازية، مع اختلاف أنها كانت تسيطر على التجارة، بينما ترمب يخدم التجار طالما كان ذلك يخدم نرجسيته
بالنسبة للسلطات فإن عملية اللوم الشعبي العنصري لتلك الفئات المستضعفة هي هدية من السماء! فكرة أننا كسلطات نعمل بأقصى جهدنا ونضحي بأرواحنا وبثرواتا من أجل إخراج الناس من براثن هذه الجائحة… لكن هؤلاء الناس هم من يصعبون حياتنا بسبب تكدسهم حينا… أو بسبب مشاكلهم وعدم احترامهم لتوجيهاتنا واحتجاجاتهم وفوضاهم حينا آخر، فكيف سننجز في ظل هذه المشاكل التي يسببها الوافدون ومن جلبهم لنا ورماهم؟ لوم الآخر والتعلل بالخطر الخارجي تكنيك تلجأ له الأنظمة الحاكمة بكل مكان بالعالم، تكنيك رغم أنه مفضوح إلى أنه غالبا ما ينجح باستمالة الجموع قليلة الوعي.
الدرس المستفاد
هل استفادت السلطات الصحية والحكومية من شهري حصار المهبولة؟ من الواضح جدا أن الجواب لا مدوية! بالنسبة لجليب شيوخ فما زالت تنافس بصدارة الأرقام الرسمية (سواء صدقناها أم لا) لعدد حالات الإصابة بالمرض اليومية، أما المهبولة فتصعد حينا بالتوب 4 وتختفي أحيانا أخرى، بل إن مناطق أخرى دخلت في سباق الإصابات وتجاوزتهما كالفروانية وخيطان (أيضا من ما يطلق عليها اسم “مناطق الوافدين”). فكيف تعاملت السلطات مع هذه التطورات؟ طبعا بالمزيد من العزل والحصار!
خلال الفترة القريبة من عيد الفطر أثناء مرحلة الحظر الشامل أرخت السلطات الحصار على المهبولة قليلا، فتم السماح لسكانها بالخروج من المنطقة خلال فترة السماح بالمشي من 4 ونصف إلى 6 ونصف كبقية المناطق من خلال بعض بوابات السور التي تم فتحها لهم، لكنه كان إرخاء “مفرطا” إن صح التعبير، فانتشرت فجأة تسجيلات مصورة للناس وهم يلهون ويتنفسون بحرية على شاطئ البحر بعد شهور الحبس الطويلة، الأمر الذي أعاد استثارة الناس ضدهم ممن صوروهم وكـأنهم مستهترون ومتمردون ويجب قمعهم وإجبارهم على “احترام الدولة”! فما كان من السلطات إلا الامتثال لتلك الأصوات وإعادة إغلاق البوابات بعد أن ظن سكان المهبولة لوهلة أن الفرج قريب وأن حصارهم سينتهي.
من ناحية أخرى صدر قرار بتمديد عزل المهبولة وجليب الشيوخ، بل وتوسعة نفس فكرة العزل على مناطق أخرى وهي الفروانية وخيطان وحولي والنقرة وميدان حولي (مرة أخرى “مناطق وافدين”) اعتبارا من تاريخ 30 مايو 2020. طبعا حتى هذه القرارات تستند على نفس القراءة المغلوطة للأعداد، فالفروانية مثلا من المناطق المتصدرة لأعداد الإصابات، ظاهريا هذا شيء مفزع! لكن إن وضعنا بالاعتبار أن منطقة الفروانية هي بالأساس ذات كثافة سكانية عالية (محافظة الفروانية تحوي ربع سكان الكويت تقريبا!) فإنه من الطبيعي أن يكثر عدد الحالات فيها، لذلك اعتبارها منطقة موبوءة تستحق العزل قرار متخبط ويستند على قراءة عاطفية للأرقام… وذلك يمثل حلقة بسلسلة فشل التخطيط.
نعود مرة أخرى لفكرة العزل ذاتها، إن كانت فكرة حصار المهبولة فاشلة ولم تحقق أهدافها المعلنة فلم الاستمرار بها بنفس الطريقة بعد طول هذه المدة؟ وبأي منطق علمي تعمم التجربة الفاشلة على مناطق أخرى؟ هل هناك منطق تم الاستناد عليه غير الأرقام المعلنة؟ هل هناك حقائق أخرى لا نعرفها أدت لتلك القرارات؟ ولم لم تُعرض وتفسر تلك الحقائق؟ تلك أسئلة لم تقدم لها إجابات… بل لم تطرح أساسا ولم تخطر على بال الواثقين ثقة عمياء بقرارات السلطة ممن أيديهم بالماء ولا يشعرون بأثرها على السكان المحاصرون!
“كلو نفرات من شان وقف خبز هو روح”
منظر يومي من معاناة سكان جليب الشيوخ وطوابير توزيع المواد الغذائية الطويلة.
هناك بالطبع احتمالات أخرى، وهي أن لحصار المهبولة -وغيرها – أهداف أخرى… غير معلنة، ولنا هنا أن نتساءل عن تلك الأهداف. هل هي وسيلة للضغط على تجمعات الوافدين؟ هل هي خطة للكشف عن متجاوزي قانون الإقامة؟ هل هي لأسباب سياسية؟ هل هي محاولة لإرضاء الرأي العام الغاضب من فشل السلطات في السيطرة على المرض؟ لو كانت الإجابة بنعم على أي من تلك الأسئلة فإن ذلك سيكون كارثة أخلاقية كبرى، أن يستغل الوضع الصحي لحقيق مآرب سياسية أو غيرها.
هل هي صدفة أن يسبق قرار تمديد العزل استعار الحملات العنصرية ضد الوافدين على مواقع التواصل الاجتماعي… والجالية المصرية على وجه الخصوص؟بل نجد حتى تلفزيون الدولة الرسمي قد عرض مسرحية للصبر حدود (1980) في نفس يوم إعلان التمديد، وهي مسرحية تدور قصتها حول رجل كويتي يتزوج من فتاة مصرية مما يتسبب بمشاكل وخلافات في بيته! ثم هل هي صدفة أيضا أن يعلن قبل قرار التمديد بأيام قليلة عن حزمة من المكافآت المادية للعاملين بما يطلق عليه اسم “الصفوف الأمامية” المتضمنة بالطبع أفراد السلطة الأمنية… وهم نفسهم من سيتولون عملية حصار المناطق الجديدة؟
أعلم أن تلك أسئلة كثيرة لا نملك إجابتها حاليا، ربما سنجيبها مستقبلا، لكنها أسئلة تستحق أن نطرحها ونفكر فيها. أو يمكنك أن تتجاهلها، وتعيش حياتك مصدقا كل ما يقال لك وواثقا بقرارات السلطات وبحكمتها بإدارة الجائحة، لكن فقط تذكر بأنه في الوقت الذي تجلس فيه ببيتك مرتاحا، أو ربما متضايقا قليلا بسبب تأثير الحجر على مواعيد قهوتك وملذاتك وزياراتك الاجتماعية، هناك بنفس الوقت من يعاني معاناة حقيقية تهدد أمنه وقوت يومه وحتى صحته وحياته بظل الحصار الذي يحيط بالمنطقة المكتوبة ببطاقته المدنية. تجاهل هذه الأسئلة الآن إن أردت، لكن إن تسبب هذا الحصار بمعاناة غيرك… أو حتى ثورتهم وانفجارهم… أتمنى أن يتحرك ضميرك قليلا.
تحديث 1: نسبة إصابات الكويتيين خلال الأيام التالية لنشر المقال تجاوزت الـ 30%.
تحديث 2: مؤسف أن تصدق الشكوك، فلأول مرة يخرج تصريح من مسؤول بالسلطات الصحية بخصوص المناطق المعزولة مسميا إياها مناطق “وافدين” و”عزاب“، وذاكرا أن لا خطة للوزارة بخصوصها سوى تركها لمناعة القطيع!
قد يختلف معي المتخصصون بالاقتصاد لما سأطرح في هذا المقال، لكن الحديث الذي سأسطر سيأخذ منحى ثقافيا وليست اقتصاديا بحتا، رغم أن المجالين بينهما ارتباط وثيق.
أزمة الوباء وتداعياتها من حجر وحظر تجوال وتباعد اجتماعي والخوف والحذر الناتج عنها وضحت لنا أمرا قد كان خاف علينا إلى حد ما، وهو مقدار التناسب بين احتياجاتنا وبين اهتماماتنا، بكافة الجوانب… وبالجانب الاقتصادي على وجه التحديد. اكتشفنا مثلا بسبب ما فرض علينا من قيود أن الكثير مما كان يحصد اهتمامنا عبارة عن كماليات ليس لها فائدة فعلية، وهي كماليات وجدنا أنفسنا مضطرين لتركها إما خوفا أو إجبارا.
بمعنى آخر… نحن قادرون اليوم على التخلي بسهولة عن الكثير من القطاعات التجارية التي كنا نعتقد بأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا بها. تلك القطاعات أخذت منا اهتماما عاطفيا كبيرا بسبب ملاحقتها لنا وإحاطتها بنا، فأصبحت جزءا من حياتنا واقتربنا من كوننا عبيدا لها، بمعنى آخر… دخلت في نسيجنا الثقافي.
ما هي تلك القطاعات التجارية؟ دون تحديد، فقط فكر بما كنت معتادا أن تنفق عليه أموالك قبل شهرين أو ثلاثة وقارنه بما تنفقه اليوم، أو ارجع لكشف حسابك البنكي لتتأكد. كم من تلك الأنشطة التي اختفت من سجل إنفاقك أنت محتاج لها في عزلتك؟ كم منها تشتاق لها عاطفيا حتى لو لم تحتجها؟ وكم منها لا يفرق معك فقدانها… أو ربما أنت سعيد ومرتاح بالتخلص منها؟ كم من تلك الأنشطة وجدت لها بديلا يغني عنها؟
الأمر لا يقتصر فقط على ما تنفقه شخصيا، حاول أن تتذكر الإعلانات التي كانت تطاردك بالشارع أو التلفزيون أو على الإنترنت، أو فكر بأشياء لم تكن تنفق عليها فعليا، بل تهفو لها نفسك من حين إلى حين عندما تراها أو تسمع بها من حولك. تذكر تأثير كل ذلك التسويق المباشر وغير المباشر عليك، تأثيره على نفسيتك وعلى تصرفاتك وحديثك وأطباعك. عملية التسويق والرسائل اللاواعية الموجهة للجمهور لها تأثير لا يقل عن تأثير عملية الشراء ذاتها، فالشراء أو الصرف يأتي غالبا نتيجة لذلك الثأثير وليس المسبب له.
مجموع المؤثرات والتصرفات والأفكار التي تحدثنا عنها هي جزء مما يطلق عليه اسم المزاج الاجتماعي (Social Mood)، وذلك المزاج الاجتماعي هو دافع له تأثير مباشر على الحركة التجارية… ومتأثر بها بنفس الوقت. بمعنى آخر توجهات السوق تتوافق مع أفكار وتوجهات وعادات المستهلك، وليس احتياجاته فقط.
لنحاول تبسيط ما يحدث أثناء عملية التسويق. في الأحوال المثالية المجردة المنتِج أو التاجر يعرض سلعا معينة، المستهلك يشتري منها ما يحتاج ويترك الباقي، التاجر يحاول عرض المزيد من المنتجات المطلوبة ويقلل مما لا يحتاجه الناس، ومسألة الحاجة تلك متغيرة حسب الوقت أو الظروف أو الموسم. كذلك الأمر بالنسبة لعملية العرض، فحتى المستهلك يتأثر بما يعرض له بالسوق ويكيف حاجاته مع ما هو متوفر. بشكل عام عملية العرض والطلب هنا تسير بخط شبه مستقيم ومتوقع.
الكلام في الفقرة السابقة يتكلم عن أحوال مثالية مجردة شبه وهمية في زمننا هذا، فالتاجر بالغالب لن يجلس مكتوف اليدين منتظرا أن يحتاج المستهلك لبضاعته أو خدمته، بل يقوم بخلق تلك الحجة! وهنا يأتي دور التسويق. من خلال التسويق يتم الإيحاء للمستهلك بأنه محتاج لتلك الخدمة، أو أن حياته ستصبح أفضل مع ذلك المنتج. تلك العملية يمكنها أن تحدث تأثيرا اجتماعيا خارجيا بمزاج المستهلك، فيسعى نحو المنتج المسوق دون أن يلاحظ إن كان منه حاجة حقيقية أم أنه واقع تحت تأثير سحر التسويق.
والعكس يحدث كذلك، توجهات الناس وأفكارهم وعاداتهم وثقافتهم المتغيرة قد تتطلب منتجات أو خدمات جديدة، أو تتوجه نحو مجال معين عوضا عن مجال كان سائدا بالسابق. ومرة أخرى على المنتج أو التاجر أن يتكيف مع ذلك التغيير، فإما يبتكر منتجات تلبي متطلبات المستهلك، أو يركز نشاطه على تلك المجالات التي عليها الطلب الأكبر. الفرق هنا عن الحالة المثالية الوهمية التي ذكرناها سابقا هو أن تلك التوجهات والعادات والثقافة المتغيرة ليس بالضرورة أن تبرز بسبب حاجة فعلية، بل هي حاجة وهمية بسبب أنواع التسويق المختلفة الشائعة، لذلك قد يكون ما يتطلبه المجتمع عبارة عن كماليات استهلاكية يمكن الاستغناء عنها. الفرد بالغالب لا يدرك وهم حاجته بسبب المزاج الاجتماعي الذي يحيط به، ورغم ذلك نجد أن تأثير الطلب على تلك الحاجة الوهمية يمكنه أن يغير السوق. وهنا نصل لنقطتنا الأساسية.
في حالتنا، خلال العقدين الأخيرين تقريبا، مزاجنا الاجتماعي كان يميل للمنتجات الاستهلاكية بشكل جارف. قد تتذكرون قصصكرسبي كريم ومحل فيرجن التي تحدثت عنها قبل سنوات، أو قد تكونون قرأتم فصل Zoology بكتاب الصورة الكبيرة. وبالطبع نتيجة لتوجهنا الاستهلاكي ذلك تكيف السوق ليلبي تلك الحاجات الاستهلاكية، فأصبح التنافس على توفير تلك الحاجات عال جدا، بل وأهملت بشكل ما بقية الاحتياجات الحقيقية أو الأكثر أهمية لمسألة توازن السوق.
ذلك التنافس التجاري والتركيز على الاحتياجات الاستهلاكية أوهمنا بأننا بخير، بأن السوق منتعش والمشاريع الجديدة تعيش حالة ازدهار. بل صرنا نفخر باستهلاكيتنا ونعتقد بأننا من روادها… وبالتالي زاد استثمارنا فيها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وبالطبع، ذلك الوهم بدأ بالتلاشي بسرعة كبيرة مع بدأ غزو الفكر الفيروسي لمجتمعنا. لم نستوعب التغيير الذي حصل بالبداية، بل حاولنا أن نعيش حياتنا المعتادة، لكن مع مرور الوقت فرض علينا أن نتنازل عن تلك الحياة ونستبدلها بحياة كنا نعتقد بأنها وهم، ولكنها حقيقة جديدة.
بوقت كتابة هذا المقال نحن في مرحلة الاعتياد التدريجي على هذه الحياة الجديدة. أصبحت الحياة الاستهلاكية السابقة إما ذكرى نسترجعها بين حين وآخر، أو أحلام وطموحات نرجوا عودتنا لها بعد أن تنجلي الغمة. لكن بين تلك الأحلام والذكريات نعيش… فقط نعيش.
حالة العيش هذه يجب أن لا تمر دون استفادة منها، لا بد من دراستها وتحليلها والتفكر فيها، وعلينا أن نعي أن حياتنا السابقة لن تعود كما كانت! لا أود الحديث عن مستقبل ما بعد الوباء فذلك موضوع طويل، لكن يكفي القول بأن تأثير صدمة الوباء نتج وسينتج عنه تغييرات ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية واضحة، وعلينا أن نتحدث عنها ونتكيف معها منذ الآن.
الحياة الاستهلاكية كما أراها حمل وانزاح عنا! التفكير والتخطيط بالعودة لها سيكون غباء ثقافيا… بكل صراحة. لا أقول بأنه علينا التخلي تماما عن تلك الأنشطة الاستهلاكية لنعيش حياة التقشف! لا يمكن استمرار ذلك التقشف، بل المهم بداية هو أن نعي مقدار تفشي الفكر الاستهلاكي الذي كان المسيطر علينا، وندرك بأننا نستطيع أن نعيش حياة طبيعية دون المبالغة فيه، والدليل أننا اليوم… نعيش.
آسف على القسوة التي لن تعجب البعض، لكن من الناحية الاقتصادية لو أفلست وأغلقت أغلب تلك الأنشطة التجارية الاستهلاكية الثانوية فنحن كمستهلكين لن نخسر شيئا، بل إن خسارة أصحاب تلك المشاريع هي خسارة شخصية لهم. فمشاريعهم لا جدوى ولا نفع اجتماعي عام حقيقي منها، فهي عبارة عن مكائن للاستنفاع من احتياجات الناس الزائفة!
لا فرق بالكلام السابق بين مشاريع صغيرة وكبيرة. نعم قد نتعاطف مع خسائر بعض أصحاب تلك المشاريع لأسباب شخصية أو إنسانية، لأن منهم أقرباؤنا وأصدقاؤنا، وكذلك نتعاطف مع موظفيهم البسطاء محدودي الدخل ممن سيتأثرون كثيرا بفقدان وظائفهم، لكن علينا أن ندرك كذلك أن ما يحدث اليوم هو نتيجة سوء اختيار وسوء تقدير لجدوى تلك المشاريع وأهميتها، ونتيجة اعتماد على مزاج اجتماعي معين مع جهل أو تجاهل أن المزاج قابل للتغير.
الذي يحدث اليوم لا أعتقد بأنه يمكن أن يطلق عليه اسم “كارثة طبيعية”، بل هو تغير إنساني طبيعي. فلله الحمد لم يحدث (حتى الآن) زلزال أو حريق أو غزو أو أي ظرف خرب الممتلكات أو أباد البشر. فالمستهلكون موجودون والمنتج موجود، لكن المستهلك لا يريد أو يخاف أو ليس من مصلحته استهلاك بعض المنتجات المعروضة حاليا، سواء كان ذلك بإرادته أو كان أمرا مفروضا عليه، بل يُقبل (أو حتى يجازف بالإقبال)على ما يحتاجه فعلا لتيسير حياته، هذا هو الشيء الذي تغير.
لعقود طويلة تناقشنا حتى الملل عن أهمية تنويع مصادر الدخل عوضا عن الإنتاج النفطي، وعن خطور الاعتماد على مصدر واحد للدخل، خاصة مع علمنا بأنه معرض للنضوب. بنفس الوقت عندما “أتيحت الفرصة” للشعب لدخول المجال التجاري كرروا نفس الغلطة… بمباركة من الحكومة طبعا، حتى أصبحنا ملوك الاستهلاك وسلاطين تكرار الأفكار! نتيجة لذلك أصبح الوضع حاليا كما يقال: خبزٍ خبزتيه… اكليه!
هذه الأزمة ستكون درسا اقتصاديا قاسيا لنا (وللعالم أجمع) ستظهر نتائجه لاحقا بشكل مؤلم للكل… من تجار وحكومة وشعب! وكي أكون صريحا، كالعادة لن نتعلم منه للأسف ما لم نعي وندرك ما يجري ونتكيف معه ونحدث تغييرا حقيقيا بحياتنا، فالعيش بالجهل والأوهام والأحلام لن ينفع!
تشاؤمي مما سيحل بنا يكاد يبلغ أشده، لذلك أقترح على الحكومة والتجار الاستثمار بمجال العلاج النفسي… سنحتاجه كثيرا بالمستقبل القريب على ما يبدو.
الوباء كارثة ضارة – لا خلاف على ذلك – لكن ذلك لا يمنع أن هناك من قد يستفيد منه بشكل ما.
الكلام الذي سأذكره قد يكون متعجلا، فنحن ما زلنا بوسط معمعة الوباء، لكن ذلك لا يمنع من أن نأخذ خطوة للوراء وننظر للصورة الكبيرة.
إن كنت من الإيجابيين المتفائلين الحالمين لا تكمل معي…
كوارث أدبية
برواية V for Vendetta الشهيرة يصاب العالم بكارثة عظيمة، الحرب النووية حسب الرواية، وبسبب تلك الكارثة تعم العالم الفوضى والخراب والمجاعة وغيرها من المصائب. وبوسط تلك الفوضى تتحالف مجموعة من الأطراف (في بريطانيا حيث تدور أحداث الرواية) وتسعى للسيطرة على الأوضاع وإعادة النظام مرة أخرى، وتنجح بذلك.
"شيء جميل... النظام أفضل من الفوضى والخراب!"
لا لوم عليك إن فكرت بذلك…
لكن المشكلة هنا هو أن تلك الأطراف التي أعادت النظام هي مجموعة من الأحزاب الفاشية المتطرفة بالتعاون مع المؤسسة الدينية وبعض الشركات التجارية الكبيرة.
بعد استتباب الأمن طبعا بدأ النظام الجديد بفرض أجندته وأفكاره على الشعب، وبالتأكيد صاغ تلك الأفكار على أنها لمصلحة الشعب وأنها السبيل الوحيد لنجاته ولعزته ولحمايته من الأخطار الخارجية… والدليل طبعا هو أنها أنقذته من قبل من الفوضى والدمار!
المبرر دائما جاهز… وهو المصلحة العامة. يتم إعلان الأحكام العرفية العسكرية وحظر التجول، من أجل المصلحة العامة. مراقبة الإعلام والسيطرة الرسمية عليه، من أجل المصلحة العامة. إسكات الأصوات المعارضة وقمع الحركات المحتجة على ما يحدث، من أجل المصلحة العامة. السيطرة على الثروات العامة والتصرف بها دون قيد أو رقيب، من أجل المصلحة العامة! وبالطبع… من أحرص على تلك المصلحة العامة من الحاكم الأوحد الحكيم المخلّص؟!
عاش الشعب بعدها سنين طويلة من القمع والقهر والسيطرة الأحادية بسبب اليأس الذي كان يعاني منه، ولثقته الزائدة بالمخلص المنقذ البطل الشجاع، والأهم من ذلك لانعدام بصيرته ورؤيته للنتائج المتوقعة لتلك الثقة.
مخدرات
الأزمات والأخطار تعتبر من أفضل المخدرات التي تهبّط الشعوب… وتنعش الأنظمة. فهي تخلق بالشعوب إحساسا وهميا بالوحدة والـ”لحمة” والالتفاف حول أي دعوة للخلاص، وترى في تلك اللحمة دليلا على نجاح مسعاها، رغم أن التلاحم وقت الأزمات تصرف طبيعي تلجأ له جميع الكائنات الحية عند تعرضها للخطر. وطبعا الأنظمة – بكافة أشكالها – تدرك ذلك وتقدم نفسها على أنها المخلّص الأوحد والبطل المنتظر المستحق للمباركة والتبجيل، مستغلة بذلك الروح القومية الناتجة عن إحساس الخوف. نرى ذلك الأمر يتكرر عبر التاريخ بشكل دائم… وغالبا ما تنجح الأنظمة باستغلال تلك الحيلة، سواء كان ذلك الاستغلال لأغراض أخلاقية أو غير أخلاقية. بل في بعض الأحيان حين لا يتوفر ذلك الخطر أو التهديد الخارجي تلجأ الأنظمة لخلقه من العدم كلما تطلب الأمر.
الناس في حالات اليأس والخوف يصيبها نوع من “العمى المؤقت”، فتصبح مستعدة لأن تتنازل عن الكثير وتتعاون مع الشيطان إن كان في ذلك ما تعتقد بأنه خلاصها. والنظام الذكي بارع في تسخير تلك المخاوف لصالحه، يعرف كيف يوجه تلك المخاوف ناحية “الآخر”، ويعرف كيف يسلط ضوء الخلاص على نفسه ليجذب العميان إليه.
كشف الخدعة
كما في قصة V for Vendetta الشعوب قد تنخدع بحيلة العدو “الآخر” لفترة من الوقت، لكن لن يطول الوقت حتى تنتبه لفداحة ما فعلت! والإدراك المتأخر سيحتاج لاحقا لعملية إصلاحية صعبة ومؤلمة!
كل ما تحتاجه الشعوب هو فتح أعينها حتى ينجلي العمى المؤقت لترى الصورة الكبيرة مرة أخرى، لكن السؤال هو متى سيحدث ذلك؟ هل بالوقت المناسب أم بعد أن يفوت الأوان؟
الرهان هو على الوعي، فقبل كل شيء يجب أن تكون الشعوب واعية وفطنة لما يجري حولها. أن تحرص على أن تتابع الأحداث وتستشف المقاصد من ورائها، أن تسأل عن الأهداف والغايات والنتائج لأي قرار يصدر… في وقت الشدة على الخصوص، وذلك أمر صعب وقت التأزم والفوضى، لكنه ليس مستحيلا.
الثقة بحكمة الأنظمة أمر ضروري، لكنها يجب أن تكون ثقة مبنية على المصارحة والشفاية والمشاركة باتخاذ القرار. الحزم في وقت الشدائد أمر هام جدا، لكن الحزم لا يعني أبدا استغباء الشعوب واستصغار شأنها واعتبارها جموع جاهلة لا تعرف أين تكمن مصلحتها.
يجب أن يستمر الناس بالمراقبة والنقاش والنقد والتوجيه، حتى وإن تحول ذلك النقاش لجدال عقيم، ذلك أمر طبيعي جدا… ولا يعني أبدا بأنه شق لما يسمى بالوحدة أو اللحمة الوطنية. لا بأس أبدا من القسوة بأسلوب طرح الرأي… أو حتى السخرية والتهكم والتندر، ذلك أيضا أمر طبيعي وصحي. بل بالعكس، نعرف أم الأمور خرجت عن وضعها الطبيعي عندما نجد من يطالب بتوحيد الخطاب وتلطيف الأسلوب وعدم الخروج عن الصراط المستقيم الذي خطه لنا النظام العاقل الحكيم! تلك هي بداية القمع والقهر والسيطرة الأحادية التي تحدثنا عنها… وذلك ما لا نرجوه ولا نبغاه!