الكثير من الفنانين على مر العصور تناولوا موضوع السلام في أعمالهم، لكن هناك فرق بين أن يقدم الفنان عملا يعبر فيه عن أحلامه وطموحاته بتحقيق السلام وبين أن يقدم عملا يعتبر واقعيا إحدى لبنات سلام قد تحقق بالفعل، فرق بين أن يكون السلام المنشود أملا مستقبليا وبين أن يكون حقيقة ملموسة يراها الجمهور ويشعر بها ويتأثر.
بوب مارلي
اعتدت من خلال سلسلة مقالات فنون الأزمات أن أتحدث عن فنانين تشكيليين أو يقدمون فنونا بصرية بالأساس، لكن حديثي اليوم هو عن فن مسموع أساسا.. وإن كنت أراه يميل نحو الفن الأدائي أيضا (Performance Art)، ففنان مثل بوب مارلي بالإضافة لكونه مغن اشتهر بما قدمه من أغان وموسيقى اشتهر أيضا بهيئته وأزياءه وحركته على المسرح بالإضافة لآرائه الفلسفية/الدينية/السياسية، فهو لذلك فنان ذو تأثير كبير على ثقافة مجموعة كبيرة من البشر في أنحاء مختلفة من العالم في عصره وحتى اليوم، لذلك فإن الاكتفاء باعتباره “مغن” فيه تقليل لقدر بوب مارلي كظاهرة ثقافية.
الحرب الأهلية الجمايكية
خلال فترة السبعينات من القرن العشرين مرت جامايكا بفترة توتر شديد بين حزب العمال الجامايكي والحزب القومي الشعبي، نتيجة لهذا التوتر والتأزم لجأ كلا الحزبين لتجنيد العصابات المحلية من أجل خوض حرب خلفية باسميهما، علما بأن الحزبين كانا يوجهان اتهامات لبعضهما بأن أحدهما يعتبر تمثيلا للشيوعية والآخر الرأسمالية… وكانت تلك الحال منتشرة في مختلف أرجاء العالم خلال فترة الحرب الباردة!
خلال فترة اشتداد ذلك التوتر قرر بوب مارلي عام ١٩٧٦ بحسن نية أن يقيم حفلة خيرية بمساندة من الحكومة الجامايكية، قوى المعارضة بطبيعة الحال لم يعجبها الأمر واعتبرت أن نية بوب مارلي هي تأييد الحزب القومي الشعبي الذي كان يحكم في ذلك الوقت، نتيجة لذلك تعرض بوب مارلي لمحاولة اغتيال أصيب بها بجرح في صدره وذراعة… لكنه خرج منها سالما، بعد هذه الحادثة بيومين أصر بوب مارلي على إتمام الحفل… وكان له ذلك، بنهاية ذات السنة قرر بوب مارلي أن يسافر إلى لندن ليستقر بها كمنفى اختياري بعيدا عن التوتر الحاصل، واستغل فترة وجوده في لندن في كتابة الأغاني وتسجيلها والتسويق لفنه في أوربا وبقية أرجاء العالم.
حفل الحب الواحد
في إبريل من عام ١٩٧٨ عاد بوب مارلي إلى جامايكا لغرض المشاركة في حفل خيري كبير دعاه إليه بعض أعضاء العصابات المتحاربة ممن آمنوا بضرورة تحقيق السلام، واتفق رأيهم بأن واحدة من أهم أدوات تحقيق ذلك السلام بين الجمايكيين هو اللجوء للفن، وبالطبع فإن أحد أهم المؤثرين بالثقافة الجامايكية ككل كان الفنان العالمي… بوب مارلي.
حضر الحفل جمهور غفير تجاوز عددهم ال٣٠ ألف شخص، وكان من ضمن الحضور كل من مايكل مانلي رئيس الوزراء الجامايكي وإدوارد سياغا زعيم حزب العمال المعارض، شارك بالحفل العديد من مغنيي “الريغي” الجدد والمخضرمين وكانت مشاركة بوب مارلي ختام الحفل.
أثناء أداء بوب مارلي لأغنية “جامِن” ألقى كلمة دعا فيها الناس لأخذ زمام المبادرة من أجل السلام ودعا كل من مانلي وسياغا لصعود المسرح ومصافحة بعضهم البعض، وتم ذلك وسط هتاف وتشجيع حميم من الجمهور المتفاعل… نرى هذه اللحظة التاريخية من خلال هذا الفيديو.
واقعيا تأثير هذا الحفل وهذه المصافحة لم يدم طويلا، فالحرب لم تنتهي بعده بل استمرت حتى عام ١٩٨١ عندما تصافح القائدان مرة أخرى أثناء جنازة بوب مارلي، لكن رغم ذلك لا يمكننا أن ننكر التأثير الثقافي العميق الذي زرعته تلك المصافحة لدى الجماهير، وهذا التأثير العميق لم يأت من فراغ.. بل هو امتداد لمبدأ الحرية والسلام الذي عاش لأجله الفنان وغنى له وعانى وبه تأثر، هو تأثير أغنى عن آلاف الخطب والمقالات والمقابلات والمؤتمرات لأنه تأثير موجه لأعماق الإنسان الجمايكي. إن أبسط رد يأتيك عندما تتحدث عن فنان مثل بوب مارلي هو أنه شخص محشش ومنحل أخلاقيا وذو عقيدة مشوهة! ولكن عند التجرد من هذه الأحكام المسبقة وإعلاننا عن “موت المؤلف البارتي” والتركيز على الفن المقدم لا الشخص القابع خلفه سنجد ببوب مارلي مثالا على الفنان المبدع الناجح ذو القضية الإنسانية… وما أحوجنا دوما لأمثاله.
مصادر: