استوقفتني هذه الفقرة من تعريف موقع المؤسسة العامة للرعاية السكنية في الكويت بنفسها:
منذ منتصف القرن الماضي، وإيماناً من الدولة بضرورة توفير الرعاية السكنية للمواطنين، فقد أقرت الحكومة الكويتية سياسة توفير الوحدات السكنية المناسبة للأسر الكويتية حيث شرعت منذ 1954 بإنشاء الوحدات السكنية ببدائل مختلفة سواء بيوت حكومية، قسائم، أو شقق، ويتم توزيعها على المواطنين طبقاً لآليات وقواعد منظمة تكفل الأسس العادلة في منح تلك المساكن.
دع عنك الآن هذه المقدمة الإنشائية وخذ أهم كلمتين فيها… “الأسس العادلة“.
القضية الإسكانية تعتبر من القضايا التي أهلكت نقاشا على مدى أكثر من خمسين عاما، فهي قضية رافقت نشأة دولة الكويت الحديثة ذاتها، إن كنت سأناقشها بشكل عام على طريقة الدواوين والمسرحيات والجرائد والخطابات السياسية فإني بالتأكيد لن أقدم شيئا بطرحي ولن أؤخر، لذلك سأركز على مبدأ واحد دقيق ومركز يتعلق بهذه القضية… وهو مبدأ “العدالة” التي تباهت بها الفقرة الواردة في رأس هذا المقال.
أمر يوميا أثناء توجهي لمقر عملي على إحدى المناطق السكنية الجديدة القريبة نسبيا من مدينة الكويت، أثناء تجوالي اليومي هذا ومشاهدتي لما يشيد من مساكن دائماً ما راودني تساؤل ظل يرن في رأسي لشهور طويلة، إن كانت هذه تعتبر منطقة سكنية وزعت أراضيها وفق “الأسس العادلة” كيف يمكن إذن لشخص واحد أن يحصل على المساحة الكافية من الأراضي لتشييد بناء مثل البناء الظاهر في هذه الصورة؟
بصياغة أخرى، إن كان في الأمر عدالة، هل بناء هذه الصفّة من المباني المتطابقة أمر متاح لي ولك ولأي مواطن كويتي؟
ما يحصل عليه المواطن العادي هو أرض تتراوح مساحتها ما بين ٤٠٠ إلى ٦٠٠ مترا مربعا تقريبا وهي كافية لبناء بيت معقول المساحة قد يحوي حديقة صغيرة أو ملحق أو كراج لسيارة… بأحسن الأحوال، لكن كيف حصل صاحب هذه السطرة من البيوت على مساحة كافية لبناء أربع فلل فارهة متطابقة؟
(ولن أتحدث هنا عن جرأته على إحاطة موقع البناء بهذا السياج القبيح…. وضم محول الكهرباء لذلك!)
قبل أن تجيبني بذكاء بأن هذه الأراضي لم تخصص له وإنما هو قد قام بشرائها من من كانت قد خصصت لهم سأبادر بالقول بأن ليس هذا هو القصد الأساسي لسؤالي!
واحد من المقاصد التي أعنيها هو السؤال عن مصدر القدرة الشرائية لهذا الشخص (أو الأشخاص) التي تمكنه من شراء ما لا يقل عن ١٦٠٠ متر مربع ليقيم عليها هذا المجمع السكني بينما المواطن العادي غير قادر على شراء شقة بمساحة ١٠٠ متر مربع؟ والسؤال عن المردود الذي سيحققه مالك هذا المجمع ليتمكن من تغطية نفقات هذا المشروع المليوني ومن أين ينوي أن يوفره؟ والسؤال الأهم عن مدى العدالة عند التعامل مع مالك هذا المشروع من الناحية القانونية والخدماتية مقارنة مع مواطن قام ببناء دورين على مساحة ٤٠٠ متر مربع ليسكن فيه مع أسرته؟
بالنسبة للتساؤل الأول عن القدرة الشرائية لمالك العقار ذو الـ١٦٠٠ متر مربع فذلك سؤال بغاية العمق سأتجنب التطرق له في هذا المقال، فقضية الطبقية الاجتماعية الحاصلة في هذا البلد بحاجة لكتب ودراسات لمناقشتها وتبيان أسبابها وعواقبها، فبالكويت لدينا طبقة تملك الأخضر واليابس دون أي مسؤولية اقتصادية أو اجتماعية أو أخلاقية… وطبقة تملك اليابس فقط دون أي مسؤولية اقتصادية أو اجتماعية أو أخلاقية! قد يقول قائل بأن ذلك وضع رأسمالي طبيعي… فشيء عادي في أي مجتمع بأن يكون هناك غني وآخر فقير وأخرون بالمنتصف، لكن المتمعن بحالة الكويت سيجد بأن الحاصل في الكويت – وغيرها من دول الخليج – ليس وضعا رأسمالي طبيعي على الأطلاق، فبالنظم الرأسمالية هناك نظم وقواعد وتشريعات تحاول قدر الإمكان ضمان “العدالة” في توزيع الثروات أولا، وضمان إتاحة مستوى معقول من المرونة تتيح للشخص الانتقال من طبقة إلى أخرى إذا اجتهد ثانيا، وتسعى لمعاملة كل طبقة من طبقات المجتمع بالطريقة المناسبة لمستواها وقدرتها ثالثا، أما نحن في الكويت فواقعيا لا تتوفر لدينا أيا من هذه النظم والقواعد والتشريعات، فنحن مجتمع قائم أساسا على ثقافة تعزز الطبقية وتؤمن بحتمية وجودها، هي ثقافة “حمدوا ربكم إنتو أحسن من غيركم!” و”لا تطالعون إللي بإيد غيركم… الله الي مقسم الأرزاق!”و”بسكم حسد!”، وكما قلت لا أريد أزيد بهذا الشأن فالنقاش فيه من الأفضل أن يترك لمقالات قادمة.
والسؤال الآن، إن كان الغرض من إنشاء المؤسسات المتتالية للرعاية السكنية في الكويت هو “توفير الوحدات السكنية المناسبة للأسر الكويتية” لنا أن نتساءل عن ما إذا كانت الوحدة السكنية التي نراها في الصورة التالية فعلا “مناسبة” للأسرة الكويتية؟
بداية علي التنويه بأن هذه الصورة لم تلتقط لناطحة سحاب بإحدى ضواحي نيويورك أو دبي أو حتى المهبولة! بل هي لإحدى “المنازل” الموجودة بذات المنطقة “السكنية” القريبة من مقر عملي.
إن افترضنا بأن المساحة المخصصة لهذا “المنزل” هي ٤٠٠ متر مربع فإن مانراه هنا هو فعليا بناء بمساحة ٢٠٠٠ متر مربع موزعة على خمسة أدوار! حسب علمي فإن القانون في الكويت يضع حدا أعلى لارتفاع البناء السكني وهو ثلاث أدوار وسرداب (فليصحح لي من هم أعلم مني بالأمور القانونية إن كنت مخطأ)، كيف بني هذا المنزل – وغيره – بهذا الارتفاع وسكنه الناس بالفعل… لا أدري؟
عدد الشقق في هذ البيت حسب تقديري يتراوح ما بين ٥ إلى ٩ شقق، فكم عدد مواقف السيارات أمامه؟ هل يمكننا أن نساوي بين منزل واحد تسكنه ٥ إلى ٩ عوائل مع منزل بنفس الحارة تسكنه عائلة واحدة من حيث استغلالهم لمساحة الطريق… على أقل تقدير؟
وهذا يجرنا للتساؤل الأخير المتعلق بالمسؤولية القانونية والاتزامات الخدماتية، هل من العدالة أن يدفع مالك هذا المنزل الضخم رسوم كهرباء وماء وخدمات (وتأمين وضرائب إن لزم الأمر) بنفس التسعيرة التي يدفعها صاحب منزل ذو دورين؟ ماذا عن من يملك منزلين أو ثلاثة أو عشرة أو أكثر… هل يعامل نفس معاملة من يملك بيتا واحدا أو حتى شقة؟ عندما كنت أعيش في بريطانيا كانت ضريبة البلدية التي أدفعها (والتي تغطي تكاليف الخدمات العامة مثل المجاري والإطفاء وواجهة الطريق وغيرها) تتناسب مع مساحة المبنى وعدد غرفه وموقعه بل وحتى عدد سكانه، بالتالي في بريطانيا – وغيرها من الدول – هناك حس يجعل الشخص يفكر ألف مرة قبل أن يطلق العنان لأحلامه بامتلاك بيت العمر أو عمارة العمر أو مجمع العمر! حس بالمسؤلية تجاه الدولة التي يقتات على خيراتها وتجاه المجتمع الذي يعيش في وسطه.
الكلمة التي تدور في رأسك الآن هي بأن أصحاب هذه المباني الضخمة إنما يساهمون في حل مشكلة قائمة، فنحن نحتاج لهذه الإنشاءات الهائلة علها تكفي لإيواء آلاف الأسر التي لا تملك منزلا، فإن رفعنا التكلفة عليهم سيرفعون الإيجارات… بالتالي أرباب الأسر هم من سيتضررون.
إن توصلت لهذه الفكرة فإني أدعوك لأن تكمل تفكرك وأن تسأل نفسك إن كانت هذه العمارات والمجمعات فعلا أوقافا خيرية تؤوي الفقراء ويذهب ريعها للمحتاجين ولتمويل حفر الآبار وكفالة الأيتام… أم أنها مشاريع “تجارية” تهدف لجني أكبر قدر من الأرباح بأقل قدر من الخسائر… ربما لتمويل المزيد من المشاريع التي تسعى لنفس الهدف؟ مشاريع وجدت بيئة خصبة مليئة بفرص الشطارة الاجتماعية التي كنت قد تحدثت عنها في مقال سابق فاستطاعت أن تشفط وتجتر أكبر قدر من الفائدة بأقل قدر من المسؤولية… دون محاسبة لا قانونية ولا شعبية!
واقعيا المشروع المشاهد في أول صورة ليس الأول ولن يكون الأخير لصاحبه – أو أصحابه -، لماذا؟ أو الأصح.. لم لا؟! نظام الطبقية الاجتماعية الذي ذكرته أعلاه قائم على هذا المبدأ أساسا، المسألة ليست فعلا شطارة تجارية ولا أرزاق وزعها الخالق سبحانه أعدل الرازقين! والحديث عنها ومناقشتها ليست حسدا ولا حقدا ولا تأتي بغرض “التحلطم”، بل لب هذا المقال والفكرة الأساسية التي أود أن أصل إليها هي تبيان أن منظر هذه المباني التي أراها ونراها جميعنا كل يوم ليست أمرا “عاديا” على الإطلاق، بل هي دليل على خلل موجود في مجتمعنا، ليس الخلل سياسيا وحسب كما يتصور الغالبية العظمى من الشعب، فكما ذكرت لعشرات المرات مشاكلنا ليست سياسية بقدر ما هي ثقافية… وإلا لما كنت قد كتبت هذا المقال في هذه المدونة.
لولا الضمير الأكاديمي الذي في داخلي لقلت بأن كل من ناقش القضية الإسكانية في الكويت ألقى اللوم فيها على الحكومة ووزاراتها ومؤسساتها، أنا لا أخليهم من المسؤولية… ولكني أصر على أن المسؤولية الكبرى تقع علينا نحن قبل الساسة، نعم سيكون كلامي فلسفيا جدا عندما أقول بأن معضلة كالقضية الإسكانية لن تحل قبل أن ندرك بأن السكن قبل أن يكون ترابا وطوبا وإسمنتا إنما هو التزام اجتماعي وأخلاقي… ولكن هذه الفلسفة الثقافية هي الأساس، الأرض التي نقف عليها ليست ملكا مطلقا لنا نفعل فيها ما نشاء ولا نبالي بالغير، بل هي – واسمحولي باستعارة هذا اللفظ الكليشيه – “أمانة” بأيدينا علينا أن نراعي العدالة عند التصرف بها وأن نحس بأن علينا مسؤولية وواجب تجاهها… لا أن نسعى لاستغلالها أقصى استغلال، فقط عندما نعي ذلك سنعرف من نحاسب وكيف نحاسبه لإيجاد الحلول، وسنعرف بأن أول من يجب أن نلوم هي أنفسنا.