الوباء كارثة ضارة – لا خلاف على ذلك – لكن ذلك لا يمنع أن هناك من قد يستفيد منه بشكل ما.
الكلام الذي سأذكره قد يكون متعجلا، فنحن ما زلنا بوسط معمعة الوباء، لكن ذلك لا يمنع من أن نأخذ خطوة للوراء وننظر للصورة الكبيرة.
إن كنت من الإيجابيين المتفائلين الحالمين لا تكمل معي…
كوارث أدبية
برواية V for Vendetta الشهيرة يصاب العالم بكارثة عظيمة، الحرب النووية حسب الرواية، وبسبب تلك الكارثة تعم العالم الفوضى والخراب والمجاعة وغيرها من المصائب. وبوسط تلك الفوضى تتحالف مجموعة من الأطراف (في بريطانيا حيث تدور أحداث الرواية) وتسعى للسيطرة على الأوضاع وإعادة النظام مرة أخرى، وتنجح بذلك.
"شيء جميل... النظام أفضل من الفوضى والخراب!"
لا لوم عليك إن فكرت بذلك…
لكن المشكلة هنا هو أن تلك الأطراف التي أعادت النظام هي مجموعة من الأحزاب الفاشية المتطرفة بالتعاون مع المؤسسة الدينية وبعض الشركات التجارية الكبيرة.
بعد استتباب الأمن طبعا بدأ النظام الجديد بفرض أجندته وأفكاره على الشعب، وبالتأكيد صاغ تلك الأفكار على أنها لمصلحة الشعب وأنها السبيل الوحيد لنجاته ولعزته ولحمايته من الأخطار الخارجية… والدليل طبعا هو أنها أنقذته من قبل من الفوضى والدمار!
المبرر دائما جاهز… وهو المصلحة العامة. يتم إعلان الأحكام العرفية العسكرية وحظر التجول، من أجل المصلحة العامة. مراقبة الإعلام والسيطرة الرسمية عليه، من أجل المصلحة العامة. إسكات الأصوات المعارضة وقمع الحركات المحتجة على ما يحدث، من أجل المصلحة العامة. السيطرة على الثروات العامة والتصرف بها دون قيد أو رقيب، من أجل المصلحة العامة! وبالطبع… من أحرص على تلك المصلحة العامة من الحاكم الأوحد الحكيم المخلّص؟!
عاش الشعب بعدها سنين طويلة من القمع والقهر والسيطرة الأحادية بسبب اليأس الذي كان يعاني منه، ولثقته الزائدة بالمخلص المنقذ البطل الشجاع، والأهم من ذلك لانعدام بصيرته ورؤيته للنتائج المتوقعة لتلك الثقة.
مخدرات
الأزمات والأخطار تعتبر من أفضل المخدرات التي تهبّط الشعوب… وتنعش الأنظمة. فهي تخلق بالشعوب إحساسا وهميا بالوحدة والـ”لحمة” والالتفاف حول أي دعوة للخلاص، وترى في تلك اللحمة دليلا على نجاح مسعاها، رغم أن التلاحم وقت الأزمات تصرف طبيعي تلجأ له جميع الكائنات الحية عند تعرضها للخطر. وطبعا الأنظمة – بكافة أشكالها – تدرك ذلك وتقدم نفسها على أنها المخلّص الأوحد والبطل المنتظر المستحق للمباركة والتبجيل، مستغلة بذلك الروح القومية الناتجة عن إحساس الخوف. نرى ذلك الأمر يتكرر عبر التاريخ بشكل دائم… وغالبا ما تنجح الأنظمة باستغلال تلك الحيلة، سواء كان ذلك الاستغلال لأغراض أخلاقية أو غير أخلاقية. بل في بعض الأحيان حين لا يتوفر ذلك الخطر أو التهديد الخارجي تلجأ الأنظمة لخلقه من العدم كلما تطلب الأمر.
الناس في حالات اليأس والخوف يصيبها نوع من “العمى المؤقت”، فتصبح مستعدة لأن تتنازل عن الكثير وتتعاون مع الشيطان إن كان في ذلك ما تعتقد بأنه خلاصها. والنظام الذكي بارع في تسخير تلك المخاوف لصالحه، يعرف كيف يوجه تلك المخاوف ناحية “الآخر”، ويعرف كيف يسلط ضوء الخلاص على نفسه ليجذب العميان إليه.
كشف الخدعة
كما في قصة V for Vendetta الشعوب قد تنخدع بحيلة العدو “الآخر” لفترة من الوقت، لكن لن يطول الوقت حتى تنتبه لفداحة ما فعلت! والإدراك المتأخر سيحتاج لاحقا لعملية إصلاحية صعبة ومؤلمة!
كل ما تحتاجه الشعوب هو فتح أعينها حتى ينجلي العمى المؤقت لترى الصورة الكبيرة مرة أخرى، لكن السؤال هو متى سيحدث ذلك؟ هل بالوقت المناسب أم بعد أن يفوت الأوان؟
الرهان هو على الوعي، فقبل كل شيء يجب أن تكون الشعوب واعية وفطنة لما يجري حولها. أن تحرص على أن تتابع الأحداث وتستشف المقاصد من ورائها، أن تسأل عن الأهداف والغايات والنتائج لأي قرار يصدر… في وقت الشدة على الخصوص، وذلك أمر صعب وقت التأزم والفوضى، لكنه ليس مستحيلا.
الثقة بحكمة الأنظمة أمر ضروري، لكنها يجب أن تكون ثقة مبنية على المصارحة والشفاية والمشاركة باتخاذ القرار. الحزم في وقت الشدائد أمر هام جدا، لكن الحزم لا يعني أبدا استغباء الشعوب واستصغار شأنها واعتبارها جموع جاهلة لا تعرف أين تكمن مصلحتها.
يجب أن يستمر الناس بالمراقبة والنقاش والنقد والتوجيه، حتى وإن تحول ذلك النقاش لجدال عقيم، ذلك أمر طبيعي جدا… ولا يعني أبدا بأنه شق لما يسمى بالوحدة أو اللحمة الوطنية. لا بأس أبدا من القسوة بأسلوب طرح الرأي… أو حتى السخرية والتهكم والتندر، ذلك أيضا أمر طبيعي وصحي. بل بالعكس، نعرف أم الأمور خرجت عن وضعها الطبيعي عندما نجد من يطالب بتوحيد الخطاب وتلطيف الأسلوب وعدم الخروج عن الصراط المستقيم الذي خطه لنا النظام العاقل الحكيم! تلك هي بداية القمع والقهر والسيطرة الأحادية التي تحدثنا عنها… وذلك ما لا نرجوه ولا نبغاه!