“المغازل” له تاريخ طويل بالثقافة الكويتية، كحاله في كل المجتمعات بكل العالم، لكن بالطبع كل مجتمع له ظروفه الاجتماعية والثقافية التي تميزه، لذلك سأحاول بهذا المقال أن أقدم قراءة لثقافة المغازل بهذا المجتمع الكويتي.
بعصرنا الحالي ومع الانفتاح على العالم وزيادة الوعي نرى أن ما نطلق عليه اسم “المغازل” هو فكرة معقدة ولهاالكثير من التشعبات. على سبيل المثال من الكلمات المتداولة هذه الأيام هي كلمتي “التحرش” و”الإطراء”، لكي نضع الأمور بالسياق فإن هاتين الكلمتين لم تكونا معروفتين أساسا بالمجتمع الكويتي قبل ١٥ أو ٢٠ سنة، كل ماكنا نعرفه هو فعل المغازل، ومعناه -بالغالب- أن يقوم الشاب بمحاولة جذب انتباه الفتاة بغرض التعرف عليها أوالتقرب منها، وذلك هو التعريف الذي اعتمدته في هذا المقال، أما تفصيلاته الحديثة، رغم أهميتها العظمى، فلن أتناولها هنا لأنها تحتاج إلى دراسة مستقلة لكي تأخذ حقها.
كلمة المغازل كانت شائعة، لكن هل الفعل كان منتشرا؟ وهل كان مقبولا؟
منتشر نعم، وأي محاولة لتصوير المغازل بأنه فعل دخيل أو مستجد هو كلام فارغ! موجود منذ أيام “الطيبين” ولغاية اليوم ولم يختف أو يتلاشى بأي فترة كانت. تاريخنا الأدبي والشعري والغنائي مليء بقصص الفتاة التي شاهدها البطل بالسوق تجر العباءة وانفتن بعينها أو زولها أو ردفها أو… فناداها وصدته وألح عليها وزجرته وتقرب منها فلا أدري ماذا حدث بعد ذلك… وبالطبع جميع هذه القصص والأشعار كتبها ذكور، وجميعها -كما يريد خيال المؤلف- انتهت بانتصار البطل… أو حسرته وعذابه!
طيب هل كان المغازل مقبولا؟ هذا السؤال صعب. بشكل عام يعتمد على من هم أطراف عملية المغازل. لندع الجانب الديني جانبا هنا، لكن بشكل عام يمكننا أن نقول بأن المغازل كان… ولا زال… “مطلوبا” من الشاب… وليس فقط مقبولا! الشباب فيما بينهم يشجعون بعضهم بعضا على التجرؤ على محادثة البنات، والشاب الذي لا يسعى لذلك ينظر له على أن فيه نقص ما… على عكس الشاب الجريء الشجاع المقطع السمكة وذيلها والذي يكون محل إعجاب وتقدير وحسد من رفقائه. والأمر لا يقتصر على الرفقاء الشباب… بل نجد حتى الأهل… وحتى الأم قد يصل بها الأمر لأن تشعر بالفخر بابنها إن علمت بأنه “يكلم” بنات، سواء كان ذلك الفخر ظاهرا أم خفيا، كذلك أخواته وقريباته على أقل تقدير لا يمانعون كون قريبهم يكلم بناتا أو يغازل أو له مغامرات مع الجنس الآخر.
الأمر من الجانب الآخر مختلف طبعا، البنت من المستحيل أن يكون قبولها لتودد الشباب أمرا مقبولا! ربما يقبل من بعض رفيقاتها… لكن بالطبع نفس الأم التي قد تشجع ابنها على المغازل سيكون مصير ابنتها داميا إن علمت أنها طرف في عملية المغازل! كذلك من الأمور التي قد لا يتقبلها المجتمع هي أن يقوم الشاب بمغازلة ما يطلق عليهاسم “بنات الحمايل”. فالبنات نوعان؛ بنات متاحات للمغازل… وبنات حمايل لا يجوز الاقتراب منهن. طبعا تعريف “الحمايل” تعريف مطاط حسب ثقافة من تسأله عن ذلك التعريف. بين الشباب وبعضهم لا فرق بين بنت حمايل وغيرها… بالعكس كل ما زادت “حمولة” البنت قد يكون ذلك انتصارا أكبر للشاب بين رفاقه، طالما أن تلك البنت ليست من أقارب أحد الشباب أو شيء من هذا القبيل.
من ذلك نلاحظ تناقضا واضحا وصريحا بمسألة تقبل المغازل أو رفضه، وفي خضم هذا التناقض تحدث الفوضى.
المغازل لم يختف منذ زمن “الطيبين” إلى وقتنا الحالي، لكنه تطور وتبدلت بعض أساليبه. السوق كان ولازال مقصد المغازلين، كذلك الشارع، الكافيه، المدرسة وقت الهدة، الجامعة، مقر العمل… وغيرها من الأماكن التقليدية. مع ظهور ثورة الاتصالات انتقل الأمر كذلك إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. لا توجد وسيلة تواصل اجتماعي لم تُسخّر للمغازل، سواء التقليدية منها كالسناب شات وتويتر، وقبلها الآي آر سي والمنتديات… وحتى الوسائل غير التقليدية كلنكد إن! حتى لو كان هناك مجال لاستخدام طلبات وديليفرو للمغازل لما أعتقوه الشباب!
من الملاحظات التي قد تحتاج دراسة أعمق هو أن مغازل الشوارع قد خف نوعا ما مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. الانفتاح الذي وفره الإنترنت سهل عملية التواصل بين الجنسين، فهو قلل من أهمية وخطورة الاتصال المباشر ومناورات “أخذ الرقم” والملاحقة والمحاورة والمصارعة. سهل الأمر على الطرفين لكي نكون صادقين، فأعطى حتى البنت مجالا أأمن للتعرف على الشاب والسيطرة النسبية على مجريات الأمور. بالطبع هذا لا يعني أن مغازل الأونلاين أفضل ولا أكثر قبولا من المغازل التقليدي، فهو ولّد نوعا آخر من المشاكل والمضايقات إن نظرنا له بتمعن، وذلك أمر يحتاج لدراسات أخرى، لكن القصد هو أن طرق المغازل تنوعت كما قلنا… وخفف مغازل الأونلاين ضغوطات “الأوفلاين” بشكل ما إن صح التعبير… إلى أن حدثت الجائحة!
تأثيرات جائحة ٢٠٢٠ الاجتماعية والثقافية مازالت في مهدها ورصدها ودراستها ستستغرق سنين طويلة، بالنسبة لموضوعنا فبعض تلك الآثار واضحة جلية.
مثل الكثير من الظواهر فإن مغازل الشوارع اختفى لفترة ما بسبب حالة الحظر وبسبب التباعد الاجتماعي، وبقي المغازل أونلاين بشكل حصري وربما بشكل أكثر تركيزا وعنفا في ظل جو الملل وتوقف النشاط الطبيعي من حركة أو دراسة أو ملهيات خارجية. تأثير تلك الفترة وما بعدها على نفسية الشباب والبنات وانعكاسها على تصرفاتهم وسلوكياتهم وروتينهم وطريقة تفكيرهم وحتى “هرموناتهم” ليست بأمر طبيعي، ولا أدعي بأني أستطيع تحليلها وتفسيرها هنا، لكن ما نراه اليوم من ظواهر اجتماعية وثقافية عجيبة هي بالتأكيد متأثرة بتلك الفترة بشكل ما… مع التأكيد بأن ذلك لا يعني أن نعلق كل شيء على شماعة الجائحة… كما كنا نعلقها بشماعة الغزو!
ما نشاهد ونسمع ونقرأ اليوم من انفجار لقنبلة التمرد الأخلاقي بالعلاقة بين الجنسين هو أمر له تاريخ طويل متراكم، ليس أمرا جديدا على الإطلاق كما أوضحنا، لكن الحديث الدائر عنه في هذا الوقت بالذات لم يأت من فراغ. ونعم، شيء مشابه له حدث سابقا بفترة ما بعد الغزو، قد يتذكر البعض حالة شارع سالم المبارك بالسالمية وتخصيص مركز سلطان الدخول للعائلات والحملات الدينية المناهضة للوضع في ذلك الوقت… هناك جيل معين سيتذكر ذلك، وما نراه اليوم بفترة ما بعد الحظر قد يكون شيئا يقترب منه من حيث المبدأ، وإن كان أكثر عنفا في بعض الحالات لأسباب وظروف معاصرة أخرى، أي هي فترة انفلات تلحق فترة من الكتم والتقييد الشديدين.
المغازل ومحاولات التقارب بين الجنسين بكافة أشكالها هي أمر طبيعي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، أي أنها لا يمكن أن “تختفي” أو تتلاشى، لا يمكن محاربتها والوقوف بوجهها ووضع حد لها. ما يتغير هو طريقة وأسلوب هذا المغازل، أدواته، أهدافه، وبالطبع طريقة وحِدة الكلام عنه. الكلام عن المغازل في فترات ما كان فخرا، في فترات كان عيبا، في فترات أخرى كان وعظا، لكن اليوم… أيضا بسبب الانفتاح على العالم… يمكن أن يكون الكلام عنه وعيا كذلك.
المغازل موجود عالميا بكل المجتمعات كما ذكرنا، والحديث عنه متأثر ببعض الظروف التي قد تتشابه، أبرزها سيطرة السلطة الذكورية. تلك السلطة دائما ما تحاول أن تدفع بميزان القوى ناحية الرجل، فتبرر له وتدعم مواقفه وتحميه وتلقي اللوم على غيره بقدر ما تستطيع، نتيجة لذلك ودليل عليه هي حالة التناقض بقبول المغازل بالمجتمع الكويتي التي تحدثنا عنها أعلاه، ونتيجة لذلك أيضا يحدث أن يحاول الرجل (أو أي صاحب سلطة) أن يفلت من اللوم إن تجاوزت تصرفاته الحدود المقبولة. مجابهة السلطة، أيا كانت، أمر صعب ويحتاج للكثير من الجرأة، وهذاما حدث بحملة “مي تو” التي انطلقت في أمريكا قبل عدة سنين والتي بدأت فيها النساء -بالغالب- الحديث عن مسألة العلاقات بين الجنسين بشكل مختلف وجريء بمحاولة لنشر الوعي حول هذه العلاقة، قد يكون ذلك التجديد هو أيضا من المتغيرات التي ساهمت بتغيير نظرتنا نحن كذلك لمسألة المغازل وشجعتنا على مناقشة هذه المسألة الحساسة هذه الأيام، وذلك أمر إيجابي مهما كانت وجهات النظر المطروحة… فالنقاش العقلاني وتجاوز مسألة “العيب” هو أمر ممتاز ويساهم باستقرار المجتمع على المدى البعيد.
الموضوع يستحق المزيد من النقاش، والمزيد من الجرأة بالطرح، رغم ثقله وحساسيته، كما يستحق المزيد من التحليل العلمي الأكاديمي، كل ذلك من أجل أن نحطم أكبر قدر من التراكمات التاريخية السلبية ونقدم صورة أوضح وأصدق لمختلف أجيال هذا المجتمع عن حقيقة المغازل بعيدا عن الخرافات المتوارثة… فتكلموا وتابعوا الحديث.