نعم أنا رجل، أنتمي لها الجنس ذو الخلايا المحتوية على الكروموزوم XY، والعبرة هنا ليست بالكروموزوم… بل هي بمجتمعات ترى أن هذا الجزيء الميكروسكوبي يمنح حامله قوى ومزايا خارقة لا تتوفر لمن يفتقده.
الجينات تتحكم بالكثير من الصفات البيولوجية للكائنات العضوية كحجمها ولونها وصحتها وجنسها، وهذا أمر طبيعي، لكن لدى البشر بالذات الأمر يتجاوز البيولوجيا. واحدة من أهم الصفات الجينية التي أعطيناها حجما وتقديرا هائلا هي كروموزوم الجنس، فبناء على هذا الكروموزوم توزع أدوار حامليه بالمجتمع، تسن لأجله القوانين، ترفع شؤون وتخفض أخرى، تبنى المباني، تسن الاقتصادات، تشن الحروب، وتكتب القصص والملاحم والأشعار، كل ذلك بسبب التركيب الكيميائي لحيوان منوي دخل بويضة ابتدأت به حياة إنسان.
هل يمكنك أن تتخيل قانونا يميز بين الناس حسب لون بشرتهم؟ أمر عظيم أليس كذلك! هل تتخيل معاملة خاصة يتلقاها الناس حسب أطوالهم؟ أمر سخيف! هل تقبل أن يصنف الناس عند دخولهم لمؤسسة ما حسب حجم أنوفهم؟ يا ساتر! نعم قد تكون هنالك واقعيا تفرقة اجتماعية بين الناس حسب تلك الصفات الجينية، لكنها تبقى تفرقة مخفية إن صح التعبير، تفرقة مذمومة وغير مقبولة… خاصة في عصرنا هذا، لكن الأمر يختلف تماما عند الحديث عن صفة جينية أخرى… وهي صفة الجنس! عندها يصبح التصنيف عاديا ومقبولا وترعاه كل الدول والأنظمة… بعضها أكثر من بعض بالتأكيد.
وليس الذكر كالأنثى
نعم ليس الذكر كالأنثى، كما أن ليس الأبيض كالأسمر وليس الطويل كالقصير، ولكن ما هو أساس هذا الاختلاف؟ هل هو بسبب اختلاف تركيب جهاز من أجهزة الجسم أو اختلاف بالشكل؟ هل ذلك سبب كاف لنفرق بالمعاملة والتقدير بين إنسان وإنسان؟
المسألة أعقد من ذلك، فهي متعلقة بتاريخ بشري يمتد لعشرات آلاف السنين، تراكمت خلال هذا التاريخ قيم ومفاهيم متوارثة سارت عليها أجيال تلو أجيال إما تعزيزا أو تعديلا، حتى وصلنا لزمننا هذا. ربما قد خرج الرجل للصيد وجلست المرأة في كهفها، وربما خرج الرجل للحروب واحتمت المرأة في مدينتها أو قريتها، وربما خرج الرجل للحقل أو المصنع وآثرت المرأة رعاية أبنائها. تاريخيا هذا ما كان عليه توزيع الأدوار في بعض المجتمعات في أزمنة مضت، ونقول بأنها بعض المجتمعات لأن تلك الأدوار ليست فعلا فطرة يسير عليها كل البشر بشكل متساو، ففي بعض المجتمعات المرأة هي من يخرج للعمل في الحقل، وفي أخرى المرأة هي من حكمت، أو هي من يدفع المهر لزوجها، أو هي من يستتر الرجل منها! لو كان الأمر فطريا، أو لو كان يعود لاختلاف جيني وفيزيولوجي لما رأينا هذه الاختلافات بين البشر. كل إنسان يجوع يأكل، وكل من يفرح يضحك، وكل من يخاف يهرب، تلك أمثلة على ما يمكن أن نطلق عليه اسم الفطرة البشرية، لكن طريقة توزيع الأدوار بالمجتمع ليست فطرة وإلا لما وجدنا هذا التنوع فيها بين المجتمعات المختلفة وبين زمن وآخر، بل هي اتفاقات اجتماعية تختلف بين الناس، أي أنها ما نطلق عليه اسم رموز اصطلاحية تأخذ معناها من اتفاق الناس على هذا المعنى. ولو سلمنا أنها فطرة فإن ذلك سيلقينا بمنحدر أخلاقي خطير كما سنفصل لاحقا.
ما دمنا نتكلم عن الأدوار الاجتماعية البشرية على مر التاريخ فإننا سنرى أن ليس كل ما كان شائعا في أزمنة سابقة ظل مقبولا ومستمرا في أزمنة لحقتها. في أزمنة سابقة مثلا كان الرق مقبولا وعاديا، كان التقسيم الطبقي نظاما اقتصاديا مسلما به، حتى التفرقة العنصرية حسب اللون أو العرق ليست أمرا يخجل منه، وكل تلك الأمور بالنهاية عبارة عن جينات بشكل أو بآخر. فالأستقراطي متميز عن غيره بسبب جيناته، والعبد عبد لأنه يحمل جينات أسلافه العبيد، وذا اللون أو العرق المميز كسب هذا اللون أو انحدر من هذا العرق بسبب جيناته. لكن مع تطور المجتمعات بدأنا ننبذ تلك الأشكال من التفرقة الجينية تدريجيا، وذلك أمر لم يأت من فراغ، بل تم بعد صراع دام ومرير وبعد ثورات عدة… مادية كانت أم ثقافية.
المادة والاجتماع
قبل عقود قليلة كانت هناك دراسات “علمية” حاول بعض العلماء من خلالها إثبات أن بعض الأعراق لها تركيبة عقلية أو جسمانية تجعل لها قدرات أكثر أو أقل من غيرها من الأعراق، فهؤلاء الناس قد يكونون أقل ذكاء، أو أكثر قوة، أو أقدر على إطاعة الأوامر أو الالتزام بالقانون على سبيل المثال. لكن جميع تلك الدراسات لم تكن سوى كلام فارغ، وثبت بطلانها وخبث نوايا القائمين عليها سريعا.
ورغم ذلك قد نجد أنه على أرض الواقع بالفعل هناك بعض الشعوب تعيش بجهل مثلا، أو تنتشر في مجتمعاتها الفوضى، وأخرى متقدمة ولها سمعة بأنها شعوب عبقرية أو شعوب تعيش بعدالة ونظام، فهل السبب في ذلك هو جيناتها؟
ربما على أقل تقدير ستتردد قبل الإجابة على ذلك السؤال، لكن لو سألنا هذا السؤال قبل ١٠٠ عام أو أكثر لما تردد أكثر الناس بالإجابة بنعم! لأنهم كانوا مقتنعين قناعة تامة بأن هؤلاء الناس يعيشون بهذه الحالة لأنهم شعوب غبية أو ضعيفة أو فوضوية وتلك شعوب ذكية أو قوية أو محترمة… جينيا!
نحن نعلم اليوم بكل يقين أن أحوال الشعوب تتغير… وبسرعة… كلما تغيرت ظروفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والأدلة على ذلك كثيرة. فقد شاهدنا، أثناء حياتنا، كيف انقلب حال بعض المجتمعات من الفقر والجهل والدمار والتخلف لتصبح لاحقا من الدول الرائدة بالقوة الاقتصادية والاستقرار السياسي والعدالة الاجتماعية، هل كان ذلك سيحدث لو كانت جيناتهم لا تسمح بذلك؟
الجينات ليس لها علاقة بقدرة المجتمعات على التطور، فقط وفر فرص التطور لأي مجتمع وابن ركائز التقدم فيه وثقفه وعلمه وأعطه حرية اختيار طريقه ومصيره… وسيتقدم ويتطور ويصبح من أفضل الشعوب! اظلمه واضطهده وقيده واسرقه وجههله وسيسقط في غياهب التخلف! هذا هو الواقع كما نراه بأعيننا وكما نلاحظه بأساليب الدراسات العلمية الأكاديمية الحديثة.
ناقصات العقل
ما ذكرناه بالفقرة السابقة عن جينات الشعوب ينطبق تماما على مسألة التفرقة الجنسية. مالخصائص التي تمتاز بها المرأة أو يمتاز بها الرجل حتى نجعل تعاملنا الاجتماعي مختلف عند التعامل مع كل منهما؟ هل المرأة -على الإطلاق- أضعف أم أغبى أم أكثر كسلا أو فوضوية من الرجل؟ أو العكس؟ إن قلت نعم اذكر الدليل العلمي القاطع… تفضل… سأنتظر!
واقعيا وبرؤيا العين، إن أخذنا أي مجال من مجالات الحياة سنجد أن قدرات الإنسان الحامل للجينات الأنثوية لا تقل عن قدرات الحامل للجينات الذكرية، هي فقط مسألة فرص وظروف. أي أنه، كما هو الحال في مسألة الشعوب التي ذكرناها أعلاه، فقط وفر الفرص الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمرأة وستعطيك نفس نتائج الرجل. لكن بسبب الموروث الثقافي التاريخي الذي أقنعنا أنفسنا به فإننا نرفض هذه المساواة… وبالتالي ارتضينا بمزاجنا فكرة اختلاف المكانة والأدوار، حتى وإن نتج عن ذلك ظلم أو قهر. ربما بأزمنة مضت كانت الشعوب منغلقة على بعضها ولا تعرف سوى الحياة الاجتماعية التي اعتادت عليها، وبالتالي كانت مقتنعة مثلا أن الرجل أقوى جسمانيا من المرأة، أو أن المرأة أكثر عطفا وحنانا من الرجل، لكن اليوم وبعد الانفتاح والتواصل انكشفت الكثير من هذه الخرافات وغيرها، وأصبح لدينا أمثلة لا تحصى تخالف تلك الاعتقادات، إنكارها ليس إلا هروب من الحقيقة.
حجج رافضي المساواة بين البشر بسبب اختلافاتهم الجينية واحدة، وهي حجج واهية وغير منطقية. عندما تقول بأن المرأة ضعيفة أو حساسة أو عاطفية فكلامك لا يقل بمغالطاته المنطقية عن قولك بأن هذا الشعب غبي أو متخلف! فهي على سبيل المثال إن كانت ضعيفة بمجتمع ما فذلك لأنك لم تمنحها فرص بناء القوة، وإن قلت أنها عاطفية فذلك لأنك ربيتها وأنشأتها بظروف أجبرتها على هذا الأمر… واضهدتها وقمعتها وتنمرت عليها إن أبدت غير ذلك! والعكس صحيح، إن قلت مثلا أن الرجل عقلاني غير عاطفي فذلك لأنه نشأ بمجتمع كبح مشاعره وأحاسيسه وأجبره على أن لا يظهر تلك العواطف حتى اعتاد على الأمر. بمعنى آخر… هي ليست “فطرة” يختص بها جين عن آخر، هي فقط فكرة اقتنعنا بها وفرضناها فرضا على أنفسنا، فلو كانت فطرة طبيعية لكان من المستحيل أن نرى امرأة متميزة بمجال ذكوري، ولا رجلا متميزا بمجال قد نعتبره أنثويا. هيئ الفرص المتساوية للجميع وسترى النتائج متساوية، لكن هذا التساوي بالفرص، في زمننا هذا وبمجتمعاتنا على الأخص، غير جاهز، وسنحتاج للكثير من الصراع والنضال والنقاش والدراسة لنزيل هذا الفرق، وقبل هذا كله… سنحتاج لأن نقر ونعترف بوهم تلك الفروقات التي قسمنا الفرص على أساسها.
غدة نسيت اسمها
لكن اختلاف كروموزومات الجنس أثرها مختلف عن جينات اللون والعرق، فالبناء الفزيولوجي للمرأة مختلف، وغددها وهرموناتها تؤثر عليها، كما أنها تحيض وتحمل وتلد، فمسألة الفروقات هنا أمر مختلف عن الاختلاف باللون أو العرق. تلك قد تكون أبرز حجج المؤمنين بالفرق بين الرجل والمرأة، ونعم هي حجج صحيحة… ظاهريا على الأقل.
لا ننكر وجود اختلافات عضوية سببها اختلاف جينات الجنس على الإنسان، ولا أي جينات أخرى، ولا ننكر تأثير الهرمونات وغيرها لحد ما على تصرفات الإنسان ومشاعره. لكن حديثنا هنا ليس عن الاختلافات المادية، بل عن الطريقة التي نتعامل بها مع هذه الاختلافات من الناحية الاجتماعية.
هناك اختلافات مادية واضحة مثلا بين الإنسان الطويل والإنسان القصير، يمكننا رؤية تلك الاختلافات بأعيننا ويمكننا قياسها، لكن الحديث هنا ليس عن وجود هذا الاختلاف بالطول بل بكيفية نظرتنا وتعاملنا معه. وجود الاختلاف بين البشر أمر طبيعي، ولا أحد يدعو لإنكاره، لكن مرة أخرى الحديث هنا عن تعاملنا الاجتماعي مع هذا الاختلاف. حديثنا هنا عن الصورة الذهنية المعممة على الإنسان بسبب صفاته الجينية، وليس عن الصفات الجينية نفسها. بمسألة الطول مثلا نجد على سبيل المثال أن الشخص الطويل جدا أو القصير جدا تصعب عليه قيادة بعض السيارات، والمشكلة هنا ليست بطول الأنسان، بل بتصميم السيارة نفسها! لماذا تصمم السيارة لأطوال معينة؟ بسبب تعاملنا الاجتماعي مع المسألة… المشكلة ليست بطول الإنسان… بل بتصميم السيارة، والتصميم أمر اجتماعي، نحن كمجتمع من صممنا السيارة بشكل حرم بعض البشر من استخدامها أو صعب قيادتها عليهم، ونفس الأمر ينطبق مع تعاملنا مع الإنسان ذو الصفات الأنثوية أو الذكرية. كل إنسان هو إنسان كامل وبأحسن تقويم ويقدر على القيام بكل الواجبات، وبالطبع يجب أن تتوفر له كل الحقوق، لكن تصميمنا الاجتماعي للواجبات والحقوق هو الشيء غير الكامل وهو ما يحتاج لتقويم.
من ناحية أخرى، وبمناسبة الحديث عن الغدد والهرمونات، الإنسان المولود بصفات ذكرية وبناء عليها تم تسجيله بشهادة ميلاده كذكر، فزيلوجيا وطبيا، قد يتغير لاحقا! جميع البشر لديهم نسب مختلفة من هرمونات التستوستيرون والأستروجين، هرمونات الجنس إن صحت التسمية، نسبة إنتاج تلك الهرمونات تختلف من إنسان لإنسان، بغض النظر عن المسمى المكتوب بشهادة ميلاده. وتلك الهرمونات تؤثر على مزاج الإنسان وعواطفه وتصرفاته وحتى بنائه الجسدي الذي بالغنا كثيرا بتقديره والتفكير فيه. أي إنسان بسبب دواء أو غذاء معين يمكن أن يتغير تركيبه الهرموني، بل إن الأمر قد يتم بشكل طبيعي جدا مع التقدم بالعمر، فهل يحق لنا أن نغير تعاملنا ونزيد أو ننقص حقوق وواجبات الإنسان إن حدث هذا التغير؟
الكروموزوم XY نفسه الذي تحدثنا عنه بالبداية والذي بناء عليه ينشأ جسم الإنسان بأعضاء ذكرية قد يختفي من جسم الذكر مع تقدم العمر، أو حتى بسبب التدخين! هناك بشر يولدون بمظاهر ذكورية كاملة، لكنهم يحملون كروموزوم X إضافي، وذلك ما يطلق عليه اسم متلازمة كلينفيلتر، وهي واحدة من العديد من المتلازمات الشائعة التي تؤثر على جنس الإنسان. بمعنى آخر… ليس كل رجل رجلا ولا كل أنثى أنثى فزيلوجيا وهرمونيا… إن كنا سنأخذ بحجة الأعضاء والغدد.
فكيف نتعامل مع كل ذلك… اجتماعيا وقانونيا! وكيف سنستمر بالتفرقة الجنسية بين البشر حسب أعضائهم وهرموناتهم إن علمنا بهذه المساحة الرمادية، حسب أعرافنا الاجتماعية في هذا الزمن كل ذلك قد تم تجاهله، فهل الكلمة المكتوبة بخانة الجنس بشهادة الميلاد أهم من ذلك كله؟!
المرأة تحيض وتلد، طيب، لكن ما علاقة ذلك بطريقة تعاملنا معها كإنسان؟ من الذي قال أن الولادة معناها وجود سبب كاف لأن تمنع المرأة من عمل أو نشاط معين، أو تأخذ أجرا مختلفا، أو تسلب حقا متوفرا لمن لا يحيض ويحمل ويلد؟ وهذا هو بيت القصيد من هذا المقال الطويل.
ما وجدنا عليه آباءنا
السؤال الأخير المطروح هو لماذا؟ لماذا علينا نغير ما تربينا ونشأنا عليه وسجله التاريخ لقرون طوال؟ عشنا كما عاش أسلافنا على أن للمرأة دور معين تفرضه عليها خصائصها وللرجل دور آخر، كما كان الحال أيام العيش بالكهوف، ماذا تغير اليوم حتى نحتاج لنتغير؟ ومن هو المسؤول عن دوام هذه الحالة بالذات من التفرقة الجينية؟ من المستفيد منه؟ ومن المتضرر؟ وما هو هذا الضرر؟ ما خطورة هذه التفرقة الجينية الاجتماعية المفتعلة على حياة البشر… على أرض الواقع؟
لكل منا إجابات على تلك الأسئلة، إجاباتي سأذكرها بمقالات أخرى لأن الحديث بها سيطول.