الإنتاج الفني والثقافي يحتاج للمال! تلك حقيقة مؤلمة… لكنه واقع حالنا اليوم.
رومانسية فكرة أن الفنان هو ذلك العبقري المعقد المنزوي في مرسمه أو مكتبه مشعلا روحه من أجل أن يضيء ظلام الجماهير قد تروق للبعض… لكنها للأسف الشديد نوع من الوهم. فأن يخرج للناس فن جاد ومؤثر ويصل لجمهور كبير ويعرض بمعارض محترمة ويكتب عنه بالصحف والمجلات والمواقع المتخصصة وتتحدث عنه وسائل الإعلام التقليدية والحديثة هو أمر بغاية الصعوبة، ولا يعتمد على موهبة أو قدرات الفنان… بل يعتمد على مقدار الدعم الذي يحصل عليه.
والدعم يعني المال بشكل خاص، فكل شيء بعملية الإنتاج الفني يحتاج للمال. تكاليف الإنتاج الفني بكافة صوره كثيرة، تبدأ بعملية التعلم والتثقف عن طريق الدراسة الأكاديمية، الدورات والورش، الكتب والأفلام، زيارة المعارض والمتاحف والمهرجانات. بعد ذلك تكاليف عملية الإنتاج ذاته كالخامات، الأدوات، الأجهزة، البرامج… كبداية، ثم هناك مساحات العمل، التراخيص، أجور العاملين والمساعدين والفنيين، ناهيك عن الوقت المهدر الذي لا يقدر بمال! كل ذلك قبل أن يظهر العمل الفني للوجود. وطبعا حتى أبسط تلك التكاليف المتعلقة بأبسط أنواع الإنتاج الفني ليست سوى البداية، بعد انتهاء العمل هناك ميزانية ضخمة تنتظر التصريف من أجل أن يقدم ذلك العمل للجمهور بشكل “لائق” ويرضي الفنان الذي بذل جهده ووقته وماله وأعصابه وفكره من أجل الخروج بذلك العمل. فبعد ذلك تأتي تكاليف إخراج العمل كالطباعة، البراويز، التغليف، النقل، ومن ثم التكاليف الحاسمة المتعلقة بالتسويق، بأجرة صالات العرض، رسوم الاشتراك بالمسابقات، تكاليف السفر والنقل والبريد للمشاركات العالمية، تكلفة المطبوعات المساندة كالكاتالوجات والبوسترات، الهدايا والنسخ المجانية الواجب تقديمها من أجل التسويق… وغيرها الكثير من التكاليف المادية والمعنوية التي يتكبدها الفنان حتى يتفحم… وليس يحترق لينير الظلام!
كأني أسمعك تقول بأنه لا داع لكل تلك المصاريف، نحن اليوم في عالم الكمبيوتر والإنترنت، ضع عملك الفني على الإنستاجرام أو اليوتيوب أو المدونة وسيصل لملايين البشر! طيب وماذا بعد ذلك؟ العمل الذي أخذ مني وقتي وجهدي ومالي هل سيعوضني عنه حصوله على بضع آلاف من المشاهدات أو “اللايكات” ليغرق بعد ذلك بأيام في بحر النت العميق؟ لا أظن بأن هدف أي فنان جاد هو الحصول على لايكات المعجبين، لو كان كذلك فإن تحوله “لفاشينيستا” سيكون طريقا أسهل بكثير له.
صناعة الفنان أمر بغاية الأهمية للأمم الساعية للنهضة، وليست ترفا، وهي صناعة لا يخلو دستور من دساتير البلدان من ذكرها. هناك كلمة شائعة لدى كثير من الناس وهي أن الفنان يجب أن يعمل بصمت ولا ينتظر دعما من أحد… وذلك كلام فارغ بصراحة! الفنان من دون دعم هو فنان محبط… أهذا ما نريد؟ المزيد من المحبطين في البلد؟ ثم أن هناك ميزانيات ضخمة ترصدها الدول من أجل عملية الدعم هذه، فهل سألت نفسك أين تصرف هذه الميزانيات؟ وكيف؟ وعلى من وماذا؟
كثير من الدول لديها مؤسسات رسمية تحاول دعم الفنانين والمبدعين بل وحتى الرياضيين والعلماء، لكن واقعيا، وفي كل مكان بالعالم، تلك المؤسسات تعاني بكثير من الأحوال من أمراض انتقلت لها عدواها من المجتمع الذي تتواجد في وسطه. فتعاني من التمصلح والمحسوبية والتأثر بالعلاقات الاجتماعية الشخصية والتأثر بالتوجهات السياسية أو العقائدية أو الطائفية أو العنصرية، وذلك أمر طبيعي… ليس سليما… لكن طبيعي بسبب التركيبة الثقافية للمجتمع. علينا كذلك أن نتكلم بصراحة ونقول بأن المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية ستسعى بطبيعة الحال لتشجيع نوع معين من الفنون قريب في غالب الأمر من التوجهات الفكرية والسياسية… “الرسمية”، وبالتالي وضع بعض القيود على المبدع أو الفنان تجعله في حالة من عدم الراحة!
ماذا عن المؤسسات الخاصة؟ الجاليريهات والأستوديوهات ودور النشر والمطابع ومساحات العمل والمعاهد الفنية الخاصة؟ ألا تقدم المساعدة للفنانين والمبدعين؟ نعم، تقدم المساعدة… لكن ليس ببلاش! فتلك المؤسسات الخاصة، في كل مكان في العالم، تبقى مشاريع تجارية، أي أنها حتى إن لم تسعى للربح فهي ستحاول تجنب الخسارة، فوراءها إيجارات ورواتب وفواتير يجب أن تدفع آخر الشهر، بالتالي لن تقدم “المساعدة” للفنانين راجية الأجر من الله! فرغم أن تلك المؤسسات تستفيد ماديا ومعنويا من تعاونها مع الفنانين والمبدعين إلى أنها في أغلب الأحيان تحملهم كذلك مصاريف تعاونها معهم. أضف لذلك أن تلك المؤسسات الخاصة مطلوب منها أن تنظر للأمر نظرة تجارية، فمن غير المعقول أن تعامل فنان ببداية طريقه الفني كمعاملتها لفنان “كبير” له جمهوره وسوقه الذي يرجى من ورائه منفعة. طبعا هذا ناهيك عن المصالح والشخصانية والمحاباة والتحيز وغيرها من الأمراض التي قد تشترك فيها بعض هذه المؤسسات الخاصة مع المؤسسات الرسمية، لكن ذلك ليس موضوعنا في هذا المقال. يجب أن أضيف كذلك بأن تلك المؤسسات الخاصة “زين منها” استمرارها بهذا المجال ضئيل الربح في أغلب الأحيان، يعني بإمكانها بسهولة أن تتحول إلى كافيهات أو معارض لبيع الدراعات أو الأثاث وتحقق أضعاف ربحها الحالي!
في الدول “المحترمة” اعتماد الفنانين والمبدعين ليس على “الحكومة” بشكل مباشر، لأن “المركزية” في تلك الأمور فكرة سيئة! بل الاعتماد يكون على المؤسسات الأهلية. المؤسسات الأهلية هي مؤسسات غير ربحية وجدت لتخدم فكرة أو فئة معينة بشكل واضح ومنظم وشفاف. نجد مؤسسات تركز على دعم فنون وتراث الأقليات مثلا، أو دعم فن الشباب الجامعي، أو دعم الفنون في الأحياء الفقيرة، أو مؤسسات تدعم الفن المعاصر، أو تدعم أدب الطفل أو تدعم السينما التجريبية… وهكذا. طبعا يشرف على تلك المؤسسات الخبراء والمتخصصون والناس الفاهمة… وليس موظفي الحكومة! تمويل تلك المؤسسات قد يعتمد جزئيا على الدعم الحكومي، أو على دعم مؤسسات أكبر منها، لكن جزء مهم من الدعم يأتي من أفراد المجتمع ذاتهم، وذلك أمر هام جدا.
اشتراك المجتمع بدعم الفن والأدب والثقافة أمر بغاية الأهمية، فذلك الدعم يجعل الفن جزءا من ثقافة ذلك المجتمع، يشعره بأهميته، يزيد من تقديره له. والعكس كذلك صحيح، الفنان المدعوم من قبل “الناس” سيتقرب منهم، سيعبر عنهم، سيتحمل مسؤولية أفكارهم وقضاياهم واهتماماتهم… بطريقته وفكره وأسلوبه وإبداعه الخاص طبعا! وذلك، برأيي، أفضل بكثير من الفنان الأناني أو المنعزل أو المنسلخ تماما عن المجتمع، أو الفنان التابع أو المدافع عن… الحكومة!
السؤال الآن… هل نحن كشعوب مستعدون لدعم الفنانين والمبدعين والمثقفين؟
ذلك سؤال كبير جدا ولا أملك له جوابا شافيا، لكني حاولت القيام بعملية استشفاف سريع لتوجهات الناس بهذا الخصوص. عندما أقول “الناس” فأنا أعني من يتابعوني على موقع تويتر 🙂
وضعت قبل أيام قليلة استبيانا بسيطا سألت فيه الناس مدى تقبلهم لفكرة تقديم تبرعات مادية لدعم عمل فني أو ثقافي، فكانت النتائج كما يلي:
بداية من الواضح أن هذا الاستبيان ليس دراسة أكاديمية معتمدة، يجب أن أذكر ذلك بوضوح لكوني أستاذ جامعي وباحث أكاديمي، لكنه قياس بسيط لتوجه من يتابعوني أو يتابعون متابعيني على تويتر، وهم فئة بسيطة جدا من فئات المجتمع.
الآن، كيف نقرأ تلك النتائج؟
نلاحظ أولا أن ١٨٪ فقط من المشاركين لديهم استعداد تام وغير مشروط لتقديم الدعم لأي عمل فني أو ثقافي، يمكن القول أن هؤلاء هم المؤمنون بأهمية الفن والثقافة كفكرة مجردة بغض النظر عن أهداف ذلك الفن أو شكله.
١٦٪ لا يفكرون بدعم المشاريع الثقافية لاعتقادهم بوجود أشياء أهم تستحق الدعم، أي أنهم غير مؤمنين بأن الفن أو الثقافة ذوات أهمية كبرى مقارنة بمساعدة المحتاجين أو المساكين أو اللاجئين وغيرهم. ١٠٪ لديهم نوع من الاهتمام بالدعم، لكنهم لا يستطيعون المساعدة بسبب ظروفهم الخاصة. من ذلك يمكننا القول أن ٢٦٪ من الشاركين لن يقدموا دعما لعمل فني أو ثقافي لو طلب منهم ذلك.
الآن، النسبة الأكبر والأهم، ٥٦٪، أكثر من نصف المشاركين، يربطون بين دعمهم للعمل الفني أو الثقافي وبين كون ذلك العمل “هادفا”. أثار هذا الخيار تسؤلات عدة، فكيف نعرّف ما هو العمل الهادف؟ طبعا كون العمل “هادفا” غير مهم بالنسبة لنا، لأن كل منا له تعريف مختلف لما هو هادف، لكن الغرض من هذا الخيار هو استشفاف وجود ارتباط مشروط بين تقديم الدعم وبين الإيمان “بفكرة” العمل المقدم. بمعنى آخر “لن أقدم الدعم لأي سائل، لابد من أن “يعجبني” ما سيقدم حتى أعطيكم من مالي!” أي أن هؤلاء الأغلبية لن يسارعوا بمد أيديهم لجيوبهم بمجرد أن يطلب منهم أحد ما تبرعا لدعم عمله الفني، وتلك نقطة هامة.
جماعة العمل “الهادف”، على خلاف جماعة “أفا عليك”، إيمانهم ليس بالفن كفن أو الثقافة كثقافة، بل إيمانهم هو برسالة ذلك الفن وتلك الثقافة، أي الفن والثقافة بالنسبة لهم هي أدوات وليست غايات. لن أناقش أي الفريقين أفضل أو أيهم على حق… فذلك موضوع كبير ومختلف، لكن يجب أن نفهم كيف نتعامل مع كلا الفريقين.
الغالبية الساحقة من المشاركين لن يقدموا الدعم لعمل إلا بعد اقتناعهم بفكرته، وذلك يعني أن على الفنان أن يكون قادرا على إقناع الناس بما يقدم، أي يجب أن يأسرهم بعمله أو يقنعهم بأهميته، وتلك مهارة من المفترض أن يكون الفنان قد تدرب عليها. ليس جميع الفنانين لديهم تلك القدرة أو المهارة.
وهنا يأتي دور المؤسسات الأهلية التي ذكرتها أعلاه، فمن الأسهل أن يقتنع الناس بفكر مؤسسة يشرف عليها خبراء مختصون، وتحمل أجندة واضحة وشفافة، فيقدمون لها أموالهم بثقة أكبر لعلمهم بإنها ستدير تلك الأموال ناحية ما يوافق تعريفهم لما هو “هادف”.
بشكل عام، رأيي أن الوضع الحالي ليس جيدا للفن والثقافة، بل هو وضع محبط للكثير من المبدعين، وهو وضع لن يتحسن ولن يتطور إن بقيت الأمور على ما هي عليه. تكاليف الفن عالية جدا… وستستمر بالارتفاع، مؤسسات دعمه الرسمية وشبه الرسمية تعاني من مشاكل عدة، المؤسسات الفنية الخاصة تركز على الجانب التجاري وغير مهتمة بفكرة دعم غيرها… لأن “اللي فيها مكفيها”، والمؤسسات الشعبية هي العامل الناقص لدينا، وعلينا أن ننتظر ظهورها حتى نعيد تقييم الوضع، فهل سنحبس الأنفاس حتى ذلك الوقت؟