حالة الحرة والزعل والاحتراق على نتائج الانتخابات وأسماء النواب الناجحين ترجع لكون المواطن يعطي هذه الانتخابات حجما يفوق سعتها الطبيعية بكثير! فهو كما ذكرت بموضوع صورة النائب مؤمن بأن مجلس الأمة هو المسيح الذي سيشفي الأبره والأكمه ويحيي الوطن من موتته بإذن الله! وهو الذي يظن بأن أعضاء هذا البرلمان يجب أن يكونوا خمسين سوبرمان متحدون لمحاربة قوى الشر، وهذا الاتحاد مستحيل بسبب تعدد أطياف المرشحين وناخبيهم وعدم وجود منظومة حزبية تقرب هذه الأطياف من بعض… سياسيا (وهذا محور يحتاج لموضوع مستقل)، مع الأخذ بالاعتبار بأن النائب ليس سوبرمان أصلا بل هو موظف يؤدي واجبه.
ما يحدث حاليا من حالة تذمر من حال البلد السياسي هو أمر غير منطقي، فكيف يتذمر الناس من اختياراتهم؟ تخيل لو اني طلبت منك أن تشتري لي وجبة من كنتاكي لآكلها على العشاء وبعد أن أحضرتها لي أخبرتك بأني أكره كنتاكي ولا أطيق أكله، ماذا سيكون ظنك بي؟ الآن إن اختار الشعب نوابا من كنتاكي ثم قال هذا الشعب بأنهم يكرهون كنتاكي، ماذا سيكون ظنك في هذا الشعب؟ نواب الشعب هم في النهاية خلاصة فكر هذا الشعب (طبعا ما لم يكن هناك تزوير أو تلاعب)، الشعب أولا حر في اختيار ممثليه من خلال عملية الاقتراع، وفي نفس الوقت هؤلاء الممثلون لم يأتو من كوكب آخر.. بل هم نتاج فكر ذلك الشعب و ثقافته ونظامه الاجتماعي والتعليمي، كيف يمكن أن نتوقع نوابا يضاهون حملة شهادات هارفرد لشعب ليس لديه خرجين من هارفارد… ولا حتى لديه جامعات تقترب في مستواها من هارفارد؟ كيف نتوقع نوابا يحملون مسمى “وطنيين” يمثلون شعبا غارقا في القومية والعنصرية؟ ذلك أمر غير منطقي.
لست سعيدا على الإطلاق إن قلت بأن كلامي في موضوعي ثقافة السور والصورة الكبيرة نراه اليوم يتجسد حاضرا أمامنا من خلال مخرجات الانتخابات الأخيرة! تلك النتائج لا تمثل الا دليلا قاطعا على ما ذكرته في كلا الموضوعين من حالة المجتمع الثقافية التي أخرجت لنا برلمانا لا نستطيع القول عنه الا “الله يعينه على نفسه” بسبب تناقض مخرجاته التي لم ولن ترضي أحدا، كذب الشعب على نفسه عندما ظن بأن أغانيه وخطاباته وتغريداته “الوطنية” الداعية إلى نبذ الطائفية والقبلية ستكون كفيلة بالقضاء على تلك المساوء.. ثم صدق كذبته! وبالنهاية لم يكن للنتيجة الا أن تسبب له صدمة! فمشجعو كل الفرق انصدموا من نجاح أعتى أعداءهم من الفرق الأخرى واختفى -تقريبا-من كان بالمنتصف، هذا التطرف في تشكيلة النواب هو انعكاس لحالة التطرف التي يعيشها المجتمع وشعور كل فرقة من فرقه بالخطر الذي يداهمها، هذا الشعور بالخطر نابع مما تراه وتقرأه في الإعلام ومن خلال متابعة ما يجري من أحداث وتطورات في المجتمعات المحيطة بها، بالتالي اختيار هذه الفرق للنواب الذين وصلوا يمثل نوعا من الصراع من أجل البقاء، قد تكون التشكيلة النيابة الشرسة بمجملها لا تعجبنا… ولكنها -مرة أخرى- إنعكاس لحالة المجتمع.
إن كنت زعلانا من نتائج هذه الانتخابات أو تلك، أو كنت مغتاضا لوصول النائب الفلاني أو من تزايد أعضاء فريق العلاني فليس هناك داع لهذا الزعل والغيض، لن أقول “هذه هذ الديموقراطية” وكأني ألقي باللوم عليها.. لأن الديموقراطية ما هي إلا منهج عام تقاد به البلد، عندما تلوم الديموقراطية فأنت كأنك تلوم حكم المباراة أو حتى تلوم قوانين الفيفا، ولا تلم الشعب على اختياراتهم وتقول بأن الشعب ما يفهم أو مو كفو ديموقراطية وبأن الشعب جاهل وما يعرف مصلحته وبأنه شعب بسرعة ينقص عليه، وطبعا لا تلم نفسك وتقول بأنك لم تبذل جهدا كافيا وبالتالي عليك أن تخطب وتغرد أكثر حتى تنهض بوعي الناس! يجب أن لا يكون هناك لوم بالمرة بل تقبل للنتائج كما هي وإدراك بأن هذه النتائج هي رغبة الشعب الحقيقية… ولا يمكن للشعب أن يختار غير ما يريد ولا يمكنه أن يختار غير ما هو في مصلحته! كل ما يختاره الشعب فيه الخير.. ولو على المدى الطويل، أمير البلاد قام بضغط زر الـ”ريسيت” ورمى الكرة بملعب الشعب وهو مدرك بأن اختيار الشعب فيه الخير مهما كانت النتائج، نعم ستستمر الأزمات… ونعم سيهبط مستوى الطرح ونعم ستتوقف التنمية وسينشغل المجلس بالتوافه ويشغلنا معه فيها، لن يكون ذلك أمرا جديدا ولا غريبا وما كان ليتغير حتى لو تغيرت تركيبة النواب، ستمر علينا سنين عجاف ولكن من بعدها سوف يغاث الناس… فاصبرو! مجتمعنا لن يتغير عندما يتغير النواب والساسة… هذه فكرة خاطئة حتى النخاع!! العكس هو الصحيح… الساسة هم من يتغيرون عندما تتغير ثقافة المجتمع، إحفظ هذا الكلام وضعه نصب عينيك دائما… غير الثقافة أولا وستتغير السياسة تبعا لذلك، كيف نغير ثقافة المجتمع؟ هذا موضوع يحتاج بحثا ودراسة طويلة ربما نعود لها في مواضيع لاحقة، ولكن على عجالة يذكر لنا علماء التاريخ والاجتماع بأن التغيير عملية صعبة ومعقدة وتحتاج لوقت طويل لتحدث، وقد يساعد على تسريع تلك العملية المعقدة حدوث الصدمات والأزمات والهزات التي تحرك الأرض قليلا تحت أقدام المجتمع، ونحن اليوم قد نعاني من آثر بعض تلك الهزات.. نعم قد نشتكي منها.. ولكن إن تذكرنا أهمية تلك الهزات ونظرنا لصورتها الكبيرة من بعيد سنجد بأنها أمر إيجابي لا يجب أن يثير الرعب فينا.
لنتذكر بأن الأمر بالنهاية سياسة، والسياسة – مثل الكرة – لعبة، يفوز فيها من يتكتك ومن يستعد و من يمتلك المهارة الأعلى… ومن يحوز على كل ذلك ليس بالضرورة أن يكون هو الأفضل.. بل هو الموفق في هذه المباراة، المباريات القادمة أكثر.. ولديك الوقت الكثير لتحضر لها، من يغني ويخطب ويغرد دون عمل فعلي لن يفوز! لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يخطب ولا يغرد بل قيل له “قم فأنذر” وتلك كانت حالة جميع العظماء الذين قادوا أممهم للمجد، فيا معشر المغنين والخطباء والمغردين دعو عنكم الساسة وألاعيبهم وحيلهم… اتركوهم ليؤدو أعمالهم ومسؤولياتهم وتفرغوا لأعمالكم ومسؤولياتكم، لا تعطوهم أكبر من حجمهم ولا تعولو عليهم الكثير… من أجل راحتكم النفسية على الأقل، شاهدنا خلال الفترة السابقة إبداعات شبابية في مجال التوعية السياسية “الحقيقية” باستخدام الميديا والتكنولوجيا الحديثة… وكم أتمنى أن يستمر هذا الإبداع ليصل لأكبر عدد ممكن من الناس، وشاهدنا العديد من الأساتذة والمثقفين يتواصلون مع الشباب ويتعاونون معهم ويقدمون لهم المعلومات والنصح والإرشاد، ونحن نحييهم على ذلك ونقدم لهم الشكر والعرفان، تلك هي مسؤولياتكم الحقيقية يا شباب ويا مثقفين.. لا تتبع النائب الفلاني وما قال ولا السياسي العلاني ومافعل، لنرتق بثقافة الشعب الحقيقية (لا ثقافة الشعارات) وسنشاهد بأعيننا كيف سينعكس ذلك على اختيارات ذلك الشعب مستقبلا.