تعمدت أن لا أنشر هذا الموضوع قبل أن يبدأ العام الجديد و بعد أن ينتهي الناس من احتفالاتهم حتى لا يقال بأني من دعاة الكآبة و الإحباط و أني من أعداء الفرح و المتعة… لا سمح الله! إن كنت تخشى أن تسبب لك قراءتك لهذا الموضوع العقلاني أي نوع من أنواع المشاعر السلبية فتوقف الآن… أو انتقل لمشاهدة
القطيطات على قولة جماعة
فلكر 🙂
لا تخف… كلامي لن يكون له علاقة بالجانب الديني أو العقائدي بشكل مباشر ، ليس لي أي علاقة بكون الاحتفال بهذا اليوم بدعة محدثة و لا تشبه بالنصارى و لا غيرهم و لا أعتقد بأن هذا الاحتفال له علاقة بأي دين أصلا… كما سيرد لاحقا.
نظرتي للموضوع ستكون فكرية أو فلسفية نوعا ما ، لست مع و لا ضد هذا اليوم و الاحتفال به و لكني سأطرح ما توصلت له بعد التفكر فيه عاما بعد عام خلال ما يقارب الثلاث عشرة عاما الماضية.
حدث في رأس السنة
لا.. لم نجد في رأسها قملة 😛
و لكن إن لم أكن مخطئا فقد بدأ تفكيري في هذا اليوم في مع اللحظة الأولى من عام 1997 أو ربما 1998، قبل سويعات من تلك اللحظة كنا قد توجهنا إلى مخيم في بر مينا عبدالله مع الأهل للاحتفال برأس السنة ، إستعدادات الاحتفال كانت بسيطة… بعض الألعاب النارية… مسابقات و العاب بسيطة… هدايا للفائزين… يعني… أشياء بريئة من هذا القبيل.
مع اقتراب موعد رأس السنة بدأ العد التنازلي…
5
4
3
2
1
هييييه !!
خلال الثواني التالية توقفت لأشاهد من هم حولي ، كان الجميع فرحا مسرورا… هناك من يضحك و هناك من يصرخ و هناك من يصفق و هناك من يركض و يقفز ، مستانسين الله يهنيهم 🙂 أنا أيضاً كنت مسرورا بتلك الأجواء… و لكني سألت نفسي :
بم تفرق اللحظة التي تلت الرقم “واحد!” عن اللحظة التي مرت “الآن!”… أو “الآن!”؟
شوية منطق
منطقيا… ليس هناك فرق بين لحظة و أخرى ، ليس هناك ما يعطي اللحظة الأولى من العام الجديد قيمة أكبر من اللحظة التي مرت عليك للتو و أنت تقرأ هذه الكلمة.
ثانيا، حتى إن كانت هناك قيمة خاصة لها… فأي لحظة هي ذات القيمة الأصح… لحظة رأس السنة في أستراليا أم الكويت أم لندن أم نيويورك؟
حتى في المنطقة الزمنية الواحدة… عندما كنا في البر في ذلك العام انتبهت أن بعضا من المخيمات التي حولنا بدأت الاحتفال قبلنا بثوان… وأخرى بعدنا! فمن منا احتفاله “أصح ” من الآخر؟
الاحتفال بهذه اللحظة إذن هو أمر نسبي ، هذا يعني أيضاً انه ليس أمرا قياسيا يمكن تعميمه على كل البشر… فكل يحتفل بتلك “اللحظة” على هواه ! فلماذا “الخبة” و التركيز على مسألة العد التنازلي للثانية الأولى من السنة بالذات؟ لماذا لا أقوم بإجراء عد تنازلي خاص فيني الآن قبل كل البشر -أو بعدهم- و أحتفل ببداية عام جديد لست مضطرا لأن أبدأه بالثانية الأولى من يوم الأول من يناير؟ كيفي.. سنتي و سأبدأها و أنهيها باللحظة التي أريد! و هذا بالفعل ما تفعله التقاويم الأخرى كالتقويم الهجري أو التقويم الصيني ، الكنائس الأورثودوكسية الشرقية على سبيل المثال تحتفل برأس السنة في يوم 14 يناير… كيفهم.
بالتالي لو نظرنا للأمر من الناحية المنطقية لوجدنا أن لحظة دخول السنة الجديدة ليس لها قيمة محددة… ولا ثابتة ، و هذا ليس كل شيء …
لماذا رأس السنة شيء مختلف عن بقية المناسبات؟
جميع المناسبات التي نحتفل بها طوال العام لها مناسبة مرتبطة بها سواء كانت هذه المناسبة دينية أم تاريخية ، عيد الفطر يأتي بعد رمضان و الذي بدوره شهر نزول القرآن ، عيد الأضحى يأتي بعد الحج ، الكريسماس هو يوم مولد سيدنا عيسى عليه السلام ، العيد الوطني و عيد التحرير مناسبتان وطنيتان تاريخيتان معروفتان للجميع ، الثانكس جيفينج… الهالوين… الهاناكا… عيد ميلادي المجيد… جميعها مناسبات لها سبب و مبرر معروف أو متعارف عليه سواء كان هذا المبرر تاريخيا أو حتى مرتبط بقصة خيالية.
بحثت بالموضوع على السريع و لم أجد مبررا مقنعا بمناسبة رأس السنة بصراحة! “المصادفة” التاريخية شبه المقنعة الوحيدة التي وجدتها هي أن هذا اليوم قد يصادف يوم “طهور” سيدنا عيسى عليه السلام! بما أنه ولد بالخامس و العشرين من ديسيمبر فإنه وفقا للأحكام اليهودية يجب أن يختن في اليوم الثامن لولادته… أي بالأول من يناير! و هذا كلام غير منطقي… فلم أسمع على الإطلاق بأحد يحتفل بذكرى “طهور” أحد على مر التاريخ ، ثم أن اليهود لا يعترفون بعيد رأس السنة… و المسيحيون تخلوا عن عادة الختان أصلا ، فكيف ترتبط هذه المناسبة بهذا الحدث؟
على فكرة.. الاحتفال برأس السنة كان يعتبر مناسبة وثنية في فترة من الفترات التاريخية و قد قاومه القساوسة في القرن السابع الميلادي ، بريطانيا كانت و حتى منتصف القرن الثامن عشر تعتبر رأس السنة هو يوم الخامس و العشرين من مارس لأنه يصادف مناسبة دينية لديهم و هي يوم “البشارة” أو اليوم الذي جاء به جبريل إلى مريم ليبشرها بحملها بعيسى عليه السلام (كما هي الرواية في الإنجيل) ، و لم يتم نقل بداية العالم إلى الأول من يناير إلا عام 1752 بعد تبني التقويم الجورجي و الذي بدوره لم يتم اختراعه إلا في أواخر القرن السادس عشر تطويرا للتقويم اليولياني الذي عمل به يوليوس قيصر منذ ستة و أربعين عاما قبل الميلاد ، أما مسألة اعتبار رأس السنة عيد يتم الاحتفال به في الدول الغربية كما هو معمول به الآن فهذا أمرا لا بد من أنه لم يتم إلا بعد تبني التقويم الجورجي بفترة.
لذلك.. فالقيمة التاريخية و الدينية لهذا للاحتفال بهذا اليوم يمكن أن توصف بالـ”مهزوزة” على أقل تقدير ، و هي فوق ذلك تقليد -حسبما هو مستخدم اليوم- قصير العمر نسبيا من الناحية التاريخية إذا ما قورن بعمر التقويم الميلادي ذاته.
مناسبة لا تخلو من بعض الخطورة !
على خلاف جميع المناسبات التي نحتفل بها على مدار السنة فإن احتفال رأس السنة يتم تراكم المشاعر المتعلقة به على مدى طويل نسبيا… لتنفجر في لحظة واحدة ! بينما المناسبات الأخرى تتوزع المشاعر بها على مدار اليوم أو الأيام أو الشهر المتعلق بها ، فلا أحد مثلا يعد عدا تنازليا ليهنئ بعيد الفطر مثلا.. أو الكريسماس أو الفالانتاين… أو عيد العمال! لذلك المشاعر المنفجرة في لحظة السنة الجديدة قد تصاحبها أفعال شبيهة بالهيستيريا أحيانا! كل حر في مشاعره على كل حال و لست أنتقد تلك المشاعر أو التصرفات هنا ، و لكن أثر إنفجار المشاعر قد يرجع سلبا -من الناحية النفسية- على صاحبه في وقت لاحق ، كما أنه قد يعطي تبريرا لبعض محاربي الفرحة لإغلاق باب الاحتفال بهذه المناسبة خوفا من “هسترة” البعض هداهم الله و ما تجره هذه الهسترة من “ظواهر”… و العياذ بالله! بس هذا مو موضوعنا.
على خلاف المناسبات الأخرى كذلك فإن بعض الناس يعول على هذه المناسبة أن تكون نقطة بداية لتحقيق الأمنيات و التوقعات ، لا أود أن أكون متشائما… و لكن بالغالب فإن تلك الأمنيات ستخيب و سيصاب صاحبها بالاحباط لعدم تحققها مع نهاية العام ، و رغم ذلك سيحمل نفسه عبئ تمني غيرها بالعام التالي (رغم إحباطاته) و هو يعلم بأنها ستخيب أيضا… و لكن ما دام الكل سيتمني فلماذا أكون مختلفا؟! لست ضد مبدأ الأماني ، و لكن ما نيل المطالب بالتمني… و لا فائدة من تلك الأمنيات إن لم تكن مقرونة بعمل ، لا بأس في التفاؤل و الأمل … و لكن ما المشكلة في أن يأمل و يتمنى و يتوقع الإنسان لمستقبله في أي يوم آخر من أيام السنة؟ هل أمنية الأول من يناير تختلف عن أمنية السابع عشر من مايو مثلا؟
جميل التفاؤل في كل وقت و كل موسم من مواسم السنة ، و لو كان لي خيار لجعلت في كل يوم ساعة أسميها ساعة الأمل ، حتى صلواتنا اليومية فيها تجديد للأمل و الرجاء ، كما يجب أن نفرق بين الأماني و التوقعات و بين تحديد الأهداف و الرؤى ، أن تضعا لنفسك هدفا فهذا يعني أن تسير على درب مخطط له للوصول إلى هذا الهدف القابل للتحقق ، و لكن أن تبقي طموحاتك على شكل أماني و تنتظر منها أن تتحقق بنفسها دون جهد فهذه صعبة شوي ، نشاهد ذلك بالتفزيون كثيرا عندما يقابلون الناس نهاية كل عام و يسألونهم عن أمانيهم و توقعاتهم للعام الجديد فنجد أحداهن تقول: أتمنى أن يسود السلام العالم! و آخر يقول: أتوقع أن أقلع عن التدخين! … شيء جميل.. و لكن ما أنتم فاعلين لتحقيق ذلك؟ فكرو في ذلك و أنتم تنعمون بدفئ منازلكم.. و أنتم تشعلون سيجارة جديدة ربما!
يعني ما نستانس؟!
أبدا لا أدعو لذلك 🙂 ، لست ضد الفرح و الاحتفال بذلك اليوم و تلك اللحظة ، أنا بنفسي أحاول الاحتفال مع الناس في هذا اليوم قدر ما أستطيع! رغم جميع ملاحظاتي و أفكاري التي ذكرتها في مقالي هذا إلا أني لا أنكر بأن رأس السنة قد تكون أشهر مناسبة يتم الاحتفال بها حول العالم ، مناسبة تجاوزت مسألة الدين و العرف و الجغرافيا ، نجد المسيحي يحتفل بها و المسلم و البوذي ، و نرى مظاهر الاحتفال بها و أشكاله تختلف من مكان إلى آخر و إن كانت تبدأ بطريقة العد التنازلي ذاتها ، يعني من أنا لأخالف ملاين البشر و أقول لهم لا تحتفلو بهذا اليوم؟! بل و حتى معارضي الاحتفال بهذا اليوم لدواع و حجج دينية فهم أيضا -برأيي- ليس لهم حق بمعارضتهم إن كانت حجتهم أن فيها تشبه بالنصارى… لأن رأس السنة ليس احتفالا نصرانيا و لا دينيا أصلا!
و لكن أعيد تكرار أن كل ما ذكرته أعلاه هو مجرد أفكار و خواطر تجمعت برأسي على مر السنين و أردت إخراجها إليك يا قارئي العزيز ، هي دعوة لإعمال العقل -لا أكثر- حتى نفهم ما يحيط بنا من ظواهر و ما نعايشه من أحداث قد لا نلقي لها بالا ، قد يكون الجهل بالأمر نعمة في بعض الأحيان ، و لكن بما أنك أكملت قراءتك حتى هذه السطور فبالتأكيد أنت لست من عشاق نعمة الجهل ، و على كل حال… سامحني إن أزعجتك ما قرأت من أفكار.
و كل عام و أنتم بخير 🙂