إن كان هناك ما أنقذ هذا الكتاب فهما أمران: بداية غزارة المعلومات التاريخية التي يحتويها ، ثم أسلوب هيكل السلس في صياغة هذه المعلومات و سردها بشكل سهل و فيه نوع من الترابط ، بالطبع فإن ما ساعد على هذين الأمرين هو خبرة الكاتب في مجال الكتابة الصحفية الموجهة بالغالب لعامة القراء ، والكتابة البسيطة لعامة القراء هي سلاح ذو حدين ، فهي شعبية و تجذب قراء من كل المستويات الثقافية ، و من ناحية أخرى قد تكون بسيطة أكثر من اللازم لتقترب من السطحية أو حتى السذاجة في بعض الأحيان!
غول البترول
كل مشاكل العالم في نظر هيكل سببها الغول القامع في قمقم منابع “البترول” ، فالبترول -بنظر هيكل- هو ما بنى أمريكا و جيش جيوشها و حرك تلك الجيوش ، و البترول في نفس الوقت هو سبب كل مشاكل العرب ، بل إن ما سبب البترول من مشاكل ومطامع طال حتى الإتحاد السوفييتي (رغم أننا نعرف اليوم أن روسيا تملك واحدا من أكبر احتياطيات البترول بالعالم).
دور البترول كقوة اقتصادية مؤثرة هو أمر لا يمكن إنكاره ، لكن مهما كانت أهميته لا يمكن أن يكون هو ذلك السبب الرئيسي بالشكل الذي صوره هيكل مغفلا أو متغافلا عن العوامل الأخرى المؤثرة كالعوامل الثقافية و الاجتماعية و التي و إن كان هيكل قد تطرق لها فإن طرحه صورها لا كعوامل أساسية بقدر ما كان استشهاده تأكيدا على نظريته البترولية! فالثقافة بترولية و المجتمع بترولي و السياسة بترولية و التاريخ بترولي بنظر هيكل.
تاريخ مسطح
و بالحديث عن التاريخ نجد أن الكاتب رغم غزارة معلوماته سطّح بعض الحقائق التاريخية و صاغها بما يناسب طرحه و هذه واحدة من أكبر المآخذ على هذا الكتاب ، فقضية الحدود العراقية الكويتية السعودية -على سبيل المثال- و هي واحدة من أعقد المسائل التاريخية قد اختصرها هيكل بأنها ناتجة عن خط رسمه “كوكس” على الخريطة في لحظة غضب و أن هذه الحدود لم تكن موجودة من الأساس بسبب الطبيعة “البدوية” لسكان هذه المنطقة التي كانت تتنقل بين بحار الرمال! و اختصر هيكل كذلك العلاقة السياسية و الدبلوماسية المعقدة بين الكويت و بريطانيا و الدولة العثمانية مصورا اتفاقية الحماية التي وقعت بين الكويت و بريطانيا و كأنها مؤامرة استعمارية تهافتت عليها بريطانيا لتسيطر على المنطقة و تهزم الخلافة العثمانية… بينما الواقع التاريخي يوضح بأن هذه المعاهدة لم توقع إلا بعد معركة دبلوماسية بين الأطراف الثلاث نتج عنها اتفاقية كانت بالأساس سرية لعدم رغبة بريطانيا لأن تكون طرفا في هذه المسألة من الأساس!
الطرح التاريخي المتعلق بالخليج و الكويت من ما يذكره هيكل كحقائق تاريخية هي بالواقع تنم عن نظرة بها نوع من “الاستشراق” الداخلي تصور منطقة الخليج على أنها مشايخ قبليّة رجعية بشكل أو بآخر ، و نحن هنا لا نقول بأن هذا الأمر غير صحيح أو حتى بأنه “عيب” يجب الخجل منه! و لكن ما أحاول قوله بأن طريقة عرض هيكل له قدمت بشكل نمطي و غير منصف إن صح التعبير.
إغفال اللب
إضافة لذلك ، و استكمالا للنظرة البترولية الهيكلية ، نجد الكاتب قد انجرف بتصوير حرب الخليج و كأنها حرب مصالح بين أمريكا و العراق… و له في ذلك مبرراته ، و لكن طرحه هذا كان فيه تجاهل واضح للجانب الإنساني من القضية ، و مرة أخرى نحن هنا لا ننكر دور “المصالح” التي حركت أطراف هذه الحرب… و لكن التركيز على مبدأ “التمصلح” أو “التمصلح البترولي” على وجه أدق أدى بهيكل لأن يغفل حقيقة الدافع الإنساني الذي حرك الشعوب لمساندة قضية الكويت و الحشد لهذه الحرب ، فمرور هيكل كان لا يتجاوز التلميح لما ارتكبته القوات العراقية في الكويت من جرائم إنسانية .. بل أدنى حتى من التلميح إن لم يبذل القارئ جهدا في استخلاص ذلك من كلام هيكل! فهو تناول كل ما حدث حول الكويت قبل الغزو و أثناءه و بعده (و ربما على عجالة لأميرها و حكومتها في المنفى) و تناسى ما حدث فيها و على أرضها و لشعبها رغم أن ذلك من المفروض أن يكون هو الأساس الذي قامت الحرب لأجله! و لكن يبدو أن هيكل تجاهل ذلك لأن فيه إضعاف لنظريته التي تعتبر المنطقة بترولا تحت رمال يرقد فوقها شيوخ القبائل قبل أن تكون شعبا و تاريخا و ثقافة… و تلك هي النظرة الإستشراقية التي اعتدنا عليها من الغرب.. و من أغلب العرب.
إضافة لذلك نجد بأنه حسب طرح هيكل لمجريات الحرب (وهي من المفترض بأنها حرب “تحرير الكويت“) نجده نسى تمام الهدف الأساسي (على الأقل المعلن) منها حتى أنه لينهي الفصل العاشر المعنون بـ”عاصفة الصحراء” صراحة بأن هدف الحرب تحقق بتدمير “الامكانيات العراقية” … دون حتى الإشارة إلى “هدف” تحرير الكويت من القوات العراقية الغازية!
هل أنصح بقراءة الكتاب؟
نعم..
بالنهاية فإن الكتاب بشكل عام يعتبر مصدرا تاريخيا غنيا ليس فقط بما يتعلق بحرب الخليج (أو حرب تحرير الكويت) بل بتاريخ المنطقة الحديث منذ بداية القرن العشرين و حتى العقد التاسع منه لا سيما لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (بغض النظر عن بعض التسطيحات المقصودة أو غير المقصودة كما ذكرنا أعلاه) ، كما أن الكتاب سهل القراءة كما ذكرنا سابقا رغم أنه يحوي أكثر من 630 صفحة ، و لكن يجب التعامل معه بحذر و قراءته قراءة نقدية لا تسلّم بكل ما ورد به على أنه هو الحقيقة الكاملة و الشاملة لحرب الخليج و “حروب البترول” كما أسماها الكاتب ، فهناك دائماً صورة أكبر و دوافع أعمق من البترول المجرد و مصالحه.
قد يوافق هذا الكتاب هوى الكثير العرب و بعض الأجانب لأنه يؤكد صورة نمطية تكونت لديهم خلال سنين طويلة ، كما أنه قدم رأيا مختلفا (أو كان مختلفا وقتها) عما كان شائعا عن الحرب عبر الإعلام و الأحداث السياسية المعاصرة للحرب ، و لكن ذلك لا يكفي اليوم و بعد عشرين عاما (أو أكثر) من انتهاء أحداثها ، فكلام هيكل و الفكرة العامة لنظريته (والتي لا زلت لا أختلف معها من حيث المبدأ) أصبحت اليوم شائعة و معروفة خاصة بعد حرب الخليج الثالثة (2003) ، و الخطر الكامن هنا هو بانقلاب حالة المعرفة العامة ليصبح كلام هيكل الذي كان ردا على حالة معرفية شائعة هو الأساس المؤكد بينما حقائق التسعينات و ما قبلها المخالفة له هي الأمر الشاذ! بمعنى آخر على القارئ عندما يقرأهذا الكتاب أن يضع باعتباره أنه كتب عام 1992 ، فإن كان القارئ عاصر ذلك التاريخ و ما قبله فإنه سيكون مكملا لما عاصره… أما إن لم يعاصر ذلك التاريخ فعليه أن يتذكر بأن هذا الكتاب يمثل وجها واحدا فقط للحقيقة… و التاريخ دائما متعدد الأوجه!
———–
تحديث:
إن كنت تبحث عن نقد مطول و أكثر “شراسة” للكتاب يمكنك الرجوع لكتاب “محمد حسنين هيكل و أوهامه عن القوة و النصر: حقائق حرب الخليج” لحنفي المحلاوي ، في هذا الكتاب يفند الكاتب مستعينا بكتابات كل من محمد جلال كشك و عبد العظيم ومضان العديد من المعلومات التاريخية التي صاغها هيكل في كتابه و يبين كيفية تلاعب هيكل بالألفاظ لتقديم صورة للقارئ قد تخالف ما هو حاصل بالواقع.
نجد في كتاب المحلاوي نقدا لاذعا لهيكل و اتهاما له بالكتابة مرتديا “الجزمة البعثية” كما يقول الانجليز! و يذكر بأن هناك تحيز واضح من هيكل نحو وجهة النظر العراقية و يستدل على ذلك بإنكاره للسبب الحقيقي للحرب و بتصويرها على أنها حرب عدوان على العراق و بأن هذه الحرب تفتقر للشرعية دون أدنى إشارة إلى كون العدوان العراقي على الكويت قد نسف كل أسس الشرعية من جذورها و صوره (تلميحا) كأنه حركة طبيعية استرد بها العراق الجزء السليب الذي اقتطعه منه الإستعمار الانجليزي.
من ناحية أخرى يعرض الكاتب اختلافات جذرية بين النسخة الإنجليزية من الكتاب (وهي التي طبعت أولا) و بين النسخة العربية ، و يتهم هيكل بأنه تلاعب في بعض الجمل و الألفاظ و زاد أو أنقص بعضها بحيث خرجت النسخة الانجليزية منه أشد قسوة على النظام المصري و أكثر دعما للنظام الأردني من النسخة العربية بحيث يكون الكتاب أكثر صلاحية للاستهلاك المصري ، كما يوضح أغلاطا جلية في بعض المعلومات التي أوردها الكتاب و التي أوقعت الإعلام المصري في حرج كحادثة تكذيب جمهورية أفريقيا الوسطى لمعلومة مشاركتها في حرب الخليج و إرسالها قوات للقاهرة طمعا في المساعدات المالية كما يدعي هيكل!
النقد في هذا الكتاب لاذع و شديد و لكنه في أحيان كثيرة يثري معلومات القارئ و يبين له على الأقل وجود وجهة نظر مختلفة و ينبهه على أن لا يأخذ بالمعلومة دون تحقق… حتى لو كان مصدرها محمد حسنين هيكل بجلالة قدره.