سبع دقائق من الصياح والمناحة و”الطرارة” وصور المآسي والدمار والقتل والتدمير مما لا تعرضه أغلب المحطات المحترمة إلا ما بعد الساعة الثامنة حفاظا على مشاعر أطفالها!
أو يمكنك إنتاج دقيقة ونصف مثل هذه:
فما الفرق بين الإنتاجين؟
الفرق بسيط، العمل الأول منتج بـ”عاطفة” فياضة لا نشك بصدقها، ولكن هل يا ترى درس منتج هذا العمل تأثير الرسائل والرموز التي حواها؟ هل فكر بجمهوره المستهدف؟ هل فكر بتأثير هذه الرموز على الجمهور غير المستهدف؟ هل أخذ بالحسبان مسألة اللغة المستخدمة؟ أقصد هنا كلا اللغتين المنطوقة والمرئية، هل العمل موجه للعالم أم للعرب؟ هل المعنى هو -كما فهمته – هو إشعاري “بالخجل” من نفسي لأني -كما يفترض المنتج- خذلت غزة وتخليت عنها؟ ما هو “الأكشن” المتوقع مني كمشاهد أن أقوم به؟ أحزن؟ أبكي؟ ألطم؟! أو “أتعاطف”.
العمل الثاني، كما فهمته، هو عمل تبصيري، أي أنه وخلال ثوان قليلة يشرح للمشاهد بشكل مبسط رؤية المنتج للوضع القائم في غزة، عرض لنا مبدأ واحدا فقط وبشكل مركز… وهو مبدأ الحرية… حرية الحركة بالتحديد، عناصر العمل ورموزه وحتى عنوانه جميعها مترابطة ومركزة، أهم عنصرين بالعمل هما الطائر والشاب، وكلاهما يعبران عن نفس المبدأ المرموز له بوضوح لأي مشاهد، ولا أظن بأني بحاجة لشرح أكثر لأن أهم ما يميز العمل هو بساطته.
العمل الأول كما هو ظاهر من إنتاج شركة خاصة… فجزاهم الله خيرا، العمل الثاني من إنتاج جمعية غير ربحية تحمل اسم “مسلك: مركز للدفاع عن حريّة الحركة “، مدير الرسوم المتحركة العمل هو يوني جودمان… وهو نفس مدير الرسوم المتحركة لفيلم والتز مع بشير Waltz with Bashir الفلم الإسرائيلي الذي رشح للأوسكار عام 2009، إن كان الاسم يبدو مألوفا فربما لأنني تحدث عن الفلم في موضوع سابق.
إستمعت قبل أسابيع بالإذاعة البريطانية بينما كنت بالسيارة للقاء مع مخرج سينمائي كان يتحدث عن فلمه الجديد ، ما شدني في بداية الأمر هو اللكنة التي كان يتحدث بها.. ظننت بالبداية إنه عربي.. خاصة و أني التقطت كلمات مثل لبنان و إسرائيل و صبرا و شاتيلا ، إكتشفت لاحقا أنه كان يتحدث عن فلم يتناول قضية الحرب اللبنانية الأولى 1982 و بالذات عن مذبحة صبرا و شاتيلا ، لم أفهم من هو منتج الفلم أو مخرجه..و فكل ما التقطته هو اسم الفلم (أو هكذا اعتقدت) .. و الذي نسيته أصلا قبل أن أصل للبيت ، انتهت السالفة عند هذا الحد.. إلى أن قرأت قبل أسبوعين تقريبا على موقع مجلة التايم تقريرا مصورا يتحدث عن الأفلام الكارتونية التي تصلح للكبار….و إذا بآخر فلم منها هو نفس الفلم الذي لم أستطع تثبيت اسمه…..و نعم.. كان كارتونيا 🙂
اسم الفلم هو Waltz With Bashir ، نظرا لأنه فلم مهرجانات و ليس فيلما تجاريا وجدت صعوبة في إيجاد دار سينما تعرضه ، و لكن قبل أيام وجدت إنه يعرض بسينما قريبة منا و ذلك لمدة يومين فقط! بالطبع لم أفوت الفرصه و اتجهت فورا لمشاهدته.
بصريا.. الفلم رائع ، يجمع بين الرسوم المتحركة الثنائية و ثلاثية الابعاد و أسلوب الرسم و التحريك فيه نوع من الواقعية ذكرتني بفلم A Scanner Darkly ، صورت مشاهد الأكشن فيه بطريقة تضاهي أي فلم كارتوني غربي.. و إن كانت واقعية تلك المشاهد و ما تجسده من حوادث حقيقية تجعل من هذا الأمر أقرب للإيلام من الإثارة! و هنا أمر يميز هذا الفلم… يعني اعتدنا في أفلام الأكشن الكرتونية أن نتحمس عن اشتداد القتال مثلا.. و لكن هنا لا مجال للحماس و ذلك لإداركنا بأن ما نشاهده ليس أمرا خياليا بالكامل… بل مبني على حقائق واقعية!
الفلم لم يقدم شيئا جديدا تاريخيا ، فهو يتحدث عن أحداث حصلت بالواقع منذ 26 عاما و جميعنا سمعنا أو قرأنا عنها ، الجديد بالفلم هو طريقة عرض ذلك التاريخ ، فبطل الفلم هو جندي إسرائيلي فقد ذاكرته المتعلقة بأحداث الحرب بسبب الصدمة العاطفية التي تعرض لها خلال الحرب ، يصور لنا الفلم رحلته في تذكر تلك الاحداث عن طريق أحاديثه و لقاءاته مع زملاءه الذين كانو بدورهم -على العكس منه- يحاولون محي تلك الأيام من ذاكرتهم ، ما أيقظ رغبته في تذكر تلك الاحداث هو حلم متكرر كان يراوده… فنشاهد طوال الفلم ذلك الحلم و هو يمتد و ينحل تدريجيا حتى نهاية الفلم عندما يتحول إلى واقع.
ما أتذكره من كلام مخرج الفلم -وهو إسرائيلي- هو أن الفلم استقبل في إسرائيل بشكل إيجابي جدا ، فصحيح أن الفلم لا ينكر تورط “بعض قادة” الجيش الاسرائيلي في مذبحة صبرا و شاتيلا إلا أنه يظهر و يركز على الموقف الإسرائيلي المنكر للمجزرة و المتبرأ من الحرب ككل ، بمعنى آخر كأنه يقول “إحنا مالنا شغل… اللبنانيين المسيحيين اذبحوا الفلسطينيين المسلمين.. الله يغربل ابليسهم!” ، الفلم -كما ذكر المخرج- كان يستقبل من قبل السفارات الإسرائيلية في الخارج استقبالا احتفاليا… و يدفع دفعا للمشاركة بأي مهرجان أو مناسبة… و لهم الحق في ذلك.
الشيء الجميل -و الذكي- في فلم هو أنه كان يمسك العصى من المنتصف ، يعني هو لم يصور الجندي الإسرائيلي بإنه البطل المغوار… و لا الشريف العفيف ، بل كان تصويره له واقعيا ، فقدم الجندي الجبان.. و الجندي المتعصب.. و الجندي الغبي ، بمعنى آخر…و باختصار.. قدم شيئا لم و لن نشاهده بالأفلام العربية التي تتناول هذا النوع من القضايا! كذلك طرح الفلم نوعا من التعاطف مع الشعب الفلسطيني و العربي ، نعم نحن نفهم بأن هذا التعاطف مصطنع و أنه في أغلب الأحيان شيء غير واقعي.. بدليل نتائج انتخاباتهم و ما نشاهده يوميا في نشرات الاخبار ، و لكن الأمر مختلف بالنسبة للمشاهد الاجنبي .. فما سيراه و يتأثر فيه هذا المشاهد هو الجانب العاطفي الذي قدم له بجرعة مركزة ، و بصراحة… لولا اطلاعي البسيط على على تاريخ المنطقة في تلك الفترة لأثر فيني أنا أيضا! أو هو بالفعل أثر فيني بعد خروجي من دار العرض مباشرة..و احتجت لبضعة أيام حتى أستطيع العودة لصوابي و كتابة هذا الموضوع بتعقل.
الفلم جميل و يستحق المشاهدة ، نعم هو مأساوي و يجلب الهم قليلا…و لكنه بنفس الوقت ممتع و مثير ، أنصح بمشاهدته لمن يستطيع الحصول عليه… مع تذكر أنه للكبار فقط 🙂 ، دائما ما أقول… معلوماتنا التاريخية يجب أن تأخذ من الكتب لا الأفلام ، و لكن أستطيع القول بأن الأحداث التاريخية بالفلم لا بأس في دقتها ، فهي مبسطة (قد يكون أكثر من اللازم) و مباشرة فمن الممكن أن نشاهده بأمان قبل أو بعد أن نقرأ عن التاريخ قليلا.
————-
تحديث :
– لقاء مع مخرج العمل آري فولمان يتحدث فيه عن الطريقة التي تم فيها إنتاج العمل :
– الجدير بالذكر أن الرسوم المتحركة تمت باستخدام برنامج “فلاش” ، و هذا أمر غريب لأن هذا البرنامج يستخدم عادة لإنتاج الرسوم المتحركة على الانترنت و ليس للسينما أو التلفزيون ، و لكن المخرج لجأ لهذه الطريقة توفيرا للمصاريف.
– سيتم طباعة قصة مصورة (Graphic Novel) مستوحاة من الفلم و إصدارها في الولايات المتحدة شهر يناير المقبل.