قد يختلف معي المتخصصون بالاقتصاد لما سأطرح في هذا المقال، لكن الحديث الذي سأسطر سيأخذ منحى ثقافيا وليست اقتصاديا بحتا، رغم أن المجالين بينهما ارتباط وثيق.
أزمة الوباء وتداعياتها من حجر وحظر تجوال وتباعد اجتماعي والخوف والحذر الناتج عنها وضحت لنا أمرا قد كان خاف علينا إلى حد ما، وهو مقدار التناسب بين احتياجاتنا وبين اهتماماتنا، بكافة الجوانب… وبالجانب الاقتصادي على وجه التحديد. اكتشفنا مثلا بسبب ما فرض علينا من قيود أن الكثير مما كان يحصد اهتمامنا عبارة عن كماليات ليس لها فائدة فعلية، وهي كماليات وجدنا أنفسنا مضطرين لتركها إما خوفا أو إجبارا.
بمعنى آخر… نحن قادرون اليوم على التخلي بسهولة عن الكثير من القطاعات التجارية التي كنا نعتقد بأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا بها. تلك القطاعات أخذت منا اهتماما عاطفيا كبيرا بسبب ملاحقتها لنا وإحاطتها بنا، فأصبحت جزءا من حياتنا واقتربنا من كوننا عبيدا لها، بمعنى آخر… دخلت في نسيجنا الثقافي.
ما هي تلك القطاعات التجارية؟ دون تحديد، فقط فكر بما كنت معتادا أن تنفق عليه أموالك قبل شهرين أو ثلاثة وقارنه بما تنفقه اليوم، أو ارجع لكشف حسابك البنكي لتتأكد. كم من تلك الأنشطة التي اختفت من سجل إنفاقك أنت محتاج لها في عزلتك؟ كم منها تشتاق لها عاطفيا حتى لو لم تحتجها؟ وكم منها لا يفرق معك فقدانها… أو ربما أنت سعيد ومرتاح بالتخلص منها؟ كم من تلك الأنشطة وجدت لها بديلا يغني عنها؟
الأمر لا يقتصر فقط على ما تنفقه شخصيا، حاول أن تتذكر الإعلانات التي كانت تطاردك بالشارع أو التلفزيون أو على الإنترنت، أو فكر بأشياء لم تكن تنفق عليها فعليا، بل تهفو لها نفسك من حين إلى حين عندما تراها أو تسمع بها من حولك. تذكر تأثير كل ذلك التسويق المباشر وغير المباشر عليك، تأثيره على نفسيتك وعلى تصرفاتك وحديثك وأطباعك. عملية التسويق والرسائل اللاواعية الموجهة للجمهور لها تأثير لا يقل عن تأثير عملية الشراء ذاتها، فالشراء أو الصرف يأتي غالبا نتيجة لذلك الثأثير وليس المسبب له.
مجموع المؤثرات والتصرفات والأفكار التي تحدثنا عنها هي جزء مما يطلق عليه اسم المزاج الاجتماعي (Social Mood)، وذلك المزاج الاجتماعي هو دافع له تأثير مباشر على الحركة التجارية… ومتأثر بها بنفس الوقت. بمعنى آخر توجهات السوق تتوافق مع أفكار وتوجهات وعادات المستهلك، وليس احتياجاته فقط.
لنحاول تبسيط ما يحدث أثناء عملية التسويق. في الأحوال المثالية المجردة المنتِج أو التاجر يعرض سلعا معينة، المستهلك يشتري منها ما يحتاج ويترك الباقي، التاجر يحاول عرض المزيد من المنتجات المطلوبة ويقلل مما لا يحتاجه الناس، ومسألة الحاجة تلك متغيرة حسب الوقت أو الظروف أو الموسم. كذلك الأمر بالنسبة لعملية العرض، فحتى المستهلك يتأثر بما يعرض له بالسوق ويكيف حاجاته مع ما هو متوفر. بشكل عام عملية العرض والطلب هنا تسير بخط شبه مستقيم ومتوقع.
الكلام في الفقرة السابقة يتكلم عن أحوال مثالية مجردة شبه وهمية في زمننا هذا، فالتاجر بالغالب لن يجلس مكتوف اليدين منتظرا أن يحتاج المستهلك لبضاعته أو خدمته، بل يقوم بخلق تلك الحجة! وهنا يأتي دور التسويق. من خلال التسويق يتم الإيحاء للمستهلك بأنه محتاج لتلك الخدمة، أو أن حياته ستصبح أفضل مع ذلك المنتج. تلك العملية يمكنها أن تحدث تأثيرا اجتماعيا خارجيا بمزاج المستهلك، فيسعى نحو المنتج المسوق دون أن يلاحظ إن كان منه حاجة حقيقية أم أنه واقع تحت تأثير سحر التسويق.
والعكس يحدث كذلك، توجهات الناس وأفكارهم وعاداتهم وثقافتهم المتغيرة قد تتطلب منتجات أو خدمات جديدة، أو تتوجه نحو مجال معين عوضا عن مجال كان سائدا بالسابق. ومرة أخرى على المنتج أو التاجر أن يتكيف مع ذلك التغيير، فإما يبتكر منتجات تلبي متطلبات المستهلك، أو يركز نشاطه على تلك المجالات التي عليها الطلب الأكبر. الفرق هنا عن الحالة المثالية الوهمية التي ذكرناها سابقا هو أن تلك التوجهات والعادات والثقافة المتغيرة ليس بالضرورة أن تبرز بسبب حاجة فعلية، بل هي حاجة وهمية بسبب أنواع التسويق المختلفة الشائعة، لذلك قد يكون ما يتطلبه المجتمع عبارة عن كماليات استهلاكية يمكن الاستغناء عنها. الفرد بالغالب لا يدرك وهم حاجته بسبب المزاج الاجتماعي الذي يحيط به، ورغم ذلك نجد أن تأثير الطلب على تلك الحاجة الوهمية يمكنه أن يغير السوق. وهنا نصل لنقطتنا الأساسية.
في حالتنا، خلال العقدين الأخيرين تقريبا، مزاجنا الاجتماعي كان يميل للمنتجات الاستهلاكية بشكل جارف. قد تتذكرون قصصكرسبي كريم ومحل فيرجن التي تحدثت عنها قبل سنوات، أو قد تكونون قرأتم فصل Zoology بكتاب الصورة الكبيرة. وبالطبع نتيجة لتوجهنا الاستهلاكي ذلك تكيف السوق ليلبي تلك الحاجات الاستهلاكية، فأصبح التنافس على توفير تلك الحاجات عال جدا، بل وأهملت بشكل ما بقية الاحتياجات الحقيقية أو الأكثر أهمية لمسألة توازن السوق.
ذلك التنافس التجاري والتركيز على الاحتياجات الاستهلاكية أوهمنا بأننا بخير، بأن السوق منتعش والمشاريع الجديدة تعيش حالة ازدهار. بل صرنا نفخر باستهلاكيتنا ونعتقد بأننا من روادها… وبالتالي زاد استثمارنا فيها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وبالطبع، ذلك الوهم بدأ بالتلاشي بسرعة كبيرة مع بدأ غزو الفكر الفيروسي لمجتمعنا. لم نستوعب التغيير الذي حصل بالبداية، بل حاولنا أن نعيش حياتنا المعتادة، لكن مع مرور الوقت فرض علينا أن نتنازل عن تلك الحياة ونستبدلها بحياة كنا نعتقد بأنها وهم، ولكنها حقيقة جديدة.
بوقت كتابة هذا المقال نحن في مرحلة الاعتياد التدريجي على هذه الحياة الجديدة. أصبحت الحياة الاستهلاكية السابقة إما ذكرى نسترجعها بين حين وآخر، أو أحلام وطموحات نرجوا عودتنا لها بعد أن تنجلي الغمة. لكن بين تلك الأحلام والذكريات نعيش… فقط نعيش.
حالة العيش هذه يجب أن لا تمر دون استفادة منها، لا بد من دراستها وتحليلها والتفكر فيها، وعلينا أن نعي أن حياتنا السابقة لن تعود كما كانت! لا أود الحديث عن مستقبل ما بعد الوباء فذلك موضوع طويل، لكن يكفي القول بأن تأثير صدمة الوباء نتج وسينتج عنه تغييرات ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية واضحة، وعلينا أن نتحدث عنها ونتكيف معها منذ الآن.
الحياة الاستهلاكية كما أراها حمل وانزاح عنا! التفكير والتخطيط بالعودة لها سيكون غباء ثقافيا… بكل صراحة. لا أقول بأنه علينا التخلي تماما عن تلك الأنشطة الاستهلاكية لنعيش حياة التقشف! لا يمكن استمرار ذلك التقشف، بل المهم بداية هو أن نعي مقدار تفشي الفكر الاستهلاكي الذي كان المسيطر علينا، وندرك بأننا نستطيع أن نعيش حياة طبيعية دون المبالغة فيه، والدليل أننا اليوم… نعيش.
آسف على القسوة التي لن تعجب البعض، لكن من الناحية الاقتصادية لو أفلست وأغلقت أغلب تلك الأنشطة التجارية الاستهلاكية الثانوية فنحن كمستهلكين لن نخسر شيئا، بل إن خسارة أصحاب تلك المشاريع هي خسارة شخصية لهم. فمشاريعهم لا جدوى ولا نفع اجتماعي عام حقيقي منها، فهي عبارة عن مكائن للاستنفاع من احتياجات الناس الزائفة!
لا فرق بالكلام السابق بين مشاريع صغيرة وكبيرة. نعم قد نتعاطف مع خسائر بعض أصحاب تلك المشاريع لأسباب شخصية أو إنسانية، لأن منهم أقرباؤنا وأصدقاؤنا، وكذلك نتعاطف مع موظفيهم البسطاء محدودي الدخل ممن سيتأثرون كثيرا بفقدان وظائفهم، لكن علينا أن ندرك كذلك أن ما يحدث اليوم هو نتيجة سوء اختيار وسوء تقدير لجدوى تلك المشاريع وأهميتها، ونتيجة اعتماد على مزاج اجتماعي معين مع جهل أو تجاهل أن المزاج قابل للتغير.
الذي يحدث اليوم لا أعتقد بأنه يمكن أن يطلق عليه اسم “كارثة طبيعية”، بل هو تغير إنساني طبيعي. فلله الحمد لم يحدث (حتى الآن) زلزال أو حريق أو غزو أو أي ظرف خرب الممتلكات أو أباد البشر. فالمستهلكون موجودون والمنتج موجود، لكن المستهلك لا يريد أو يخاف أو ليس من مصلحته استهلاك بعض المنتجات المعروضة حاليا، سواء كان ذلك بإرادته أو كان أمرا مفروضا عليه، بل يُقبل (أو حتى يجازف بالإقبال)على ما يحتاجه فعلا لتيسير حياته، هذا هو الشيء الذي تغير.
لعقود طويلة تناقشنا حتى الملل عن أهمية تنويع مصادر الدخل عوضا عن الإنتاج النفطي، وعن خطور الاعتماد على مصدر واحد للدخل، خاصة مع علمنا بأنه معرض للنضوب. بنفس الوقت عندما “أتيحت الفرصة” للشعب لدخول المجال التجاري كرروا نفس الغلطة… بمباركة من الحكومة طبعا، حتى أصبحنا ملوك الاستهلاك وسلاطين تكرار الأفكار! نتيجة لذلك أصبح الوضع حاليا كما يقال: خبزٍ خبزتيه… اكليه!
هذه الأزمة ستكون درسا اقتصاديا قاسيا لنا (وللعالم أجمع) ستظهر نتائجه لاحقا بشكل مؤلم للكل… من تجار وحكومة وشعب! وكي أكون صريحا، كالعادة لن نتعلم منه للأسف ما لم نعي وندرك ما يجري ونتكيف معه ونحدث تغييرا حقيقيا بحياتنا، فالعيش بالجهل والأوهام والأحلام لن ينفع!
تشاؤمي مما سيحل بنا يكاد يبلغ أشده، لذلك أقترح على الحكومة والتجار الاستثمار بمجال العلاج النفسي… سنحتاجه كثيرا بالمستقبل القريب على ما يبدو.